المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الخميس ٢١ تشرين الثاني ٢٠٢٤ - 19 جمادي الأول 1446
 قال تعالى في كتابِه العزيز: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.

وذلك لأن الإنسانَ وخاصةً العارف العالم هو غرضُ الباري من جميعِ مخلوقاتِه، إنه في اتحادِه بالعلومِ العقليةِ والفضائلِ جوهرُ هذا الوجودِ وغايتُه ومحجّتُه البيضاء. فهو الكائنُ الوحيدُ القادرُ على أن يعقلَ نفسَه ويعقلَ قوانينَ الطبيعةِ ويعقلَ معنى الله على قدرِ منزلتِه عندَ الله. وقد سمى اليونانيُّونَ العقلَ "لوغوس"، وسمّاه الفلاسفةُ علّةَ العلل، وسمّاه الشرقيون نورَ الله الشعشعانيِّ، وبعضُهم سمّاه النارَ الموقدَة التي تطلعُ على الأفئدة.

عرّف الأسلافُ العقلَ بأنه الوقوفُ عند مقاديرِ الأشياءِ قولاً وعملاً، أي تحديدُ الأشياءِ ليغدو وجودُها واضحاً جلياً لا لُبْسَ فيه ولا غموض، بعيداً عن الخواطرِ والأوهامِ والأماني والأحلام. وهذا بالضبط ما كان يقصدُه سقراط ُعندما كان يقولُ: "أيها الناسُ عندما تتكلّمون حدِّدوا ألفاظَكم". ولقد أدرك فلاسفةُ اليونانِ منذ القرن الرابع ق.م. أنَّه لا يمكنُ تحديدُ الألفاظِ والمعاني بدونِ علم المنطق، فابتكره أرسطو وجعل منه ميزاناً لكل العلوم.

قال الرسول الكريم (ص) في مدحِ العقل: ما اكتسبَ ابنُ آدم أفضل من عقلٍ يهديه الى هدىً او يردُّه عن رَدىً، وقال ابن سينا: "لو صُوِّرَ العقلُ لأضاءَ عتمةَ الليل"، وإن ننسى لا ننسى ما قاله المتنبّي:
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى الى شرف من الإنسان


لقد ميّزَ الفلاسفةُ بين العقلِ والعلمِ، وبين العقلِ والأدبِ، فقالوا: "إنَّ بالعقلِ نكتسبُ الفضائلَ البرهانيةِ، والعلومَ الإلهيةِ، والكلياتِ المجرّدةِ، والبديهياتِ المنطقيةِ". أمَّا العلمُ فهو معرفةُ الجزئياتِ المحسوسةِ بمسيرة ِتقنياتها وقوانينِ حركاتِها، الإنشطارُ والاندماجُ، التواصلُ والتنافرُ، حتى إذا وصلت معرفةُ الجزئياتِ المحسوسةِ الى الكلياتِ المجرّدةِ أصبحت عقلاً. وكذلك قالوا أنَّ الأدبَ هو معرفةُ سلوكياتِ الإنسانِ التي تجعل منه إنساناً عادلاً إيجابياً في التعاملِ مع نفسِه وفي التعاملِ مع الآخرين، سواءً في بلاغةِ لغتِه أو في انضباطِ تصرفاتِه حسب قواعدِ علمِ الأخلاقِ، حتى إذا وصلَت آدابُه الى مرتَبةِ الحكمةِ أصبحت عقلاً. وقالوا أن الأدبَ بحاجةٍ الى دليلٍ يُرشِدُه وهو العقل. فالعقلُ بحاجةٍ الى آدابٍ تجسدُّه واقعاً اجتماعياً ملموساً، قيل: "العقلُ بلا أدبٍ فقرٌ، والأدبُ بلا عقلٍ حتفٌ"، وقيل: "بلوغُ شرفِ المنزلةِ بغير عقلٍ إشرافٌ على الهلكةِ"، وقالوا أيضاً: "عاقلٌ بلا أدبٍ كفارسٍ بلا سلاحٍ"، فالعقلُ والأدبُ كالروحِ والجسدِ، العقلُ روحُ الأدبِ والأدبُ جسدُ العقل.

قال الإمام الحسين بن علي (ع): ثلاثةٌ تذهبُ ضياعاً، دينٌ بلا عقلٍ، ومالٌ بلا بذلٍ، وعشقٌ بلا وصلٍ.

والعقلُ لا يكونُ إلا بمصاحبةِ العقلاءِ، قال أبو العلاء:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى ظنّ أني جاهل.


ساهم في النص، كمال سري الدين.

حرر في: 26 شوال 1432 هـ. الموافق 24/9/2011 م
  معارف توحيدية