هل الضمير هو تلك الحقائق البديهية المنقوشة على مرايا جواهر نفوسنا الناطقة منذ بدء التكوين، والتي طمست أنوارها بردئ أفكارنا وأعمالنا فظننا انها في حكم اللاموجود؟. تماماً كما باطن الأرض الناري طمس عليه بالماء والتراب فظن الجهلاء ان كوكب الأرض كله ماء وتراب، حتى ينفجر بركان ما في مكان ما فيسيل النار أنهاراً تحرق الحجر والمدر، عندها يتذكرون ان باطن الأرض مراجل من نار. كذلك نحن نعيش في برد غفلتنا وفي وهم استكانتنا الى الأفعال المخالفة، حتى ينفجر فجأة بركان الضمير من أعماق نفوسنا ليرمي أمامنا بنار الحقائق.
هل الضمير هو تلك البوصلة التي اختزنت سرّ الألوهية فينا والتي هي أكثر شفافية من علم المنطق الذي يعتمد الاستقراء والقياس والإستنساخ، وأكثر رهافة من كل العلوم العقلية التي تقدم لنا الحقائق ببراهين الملاحظة والتجربة والتعليل والتفسير والمقارنة؟. وكأن الضمير حدساً ينطلق من الكليات المجردة باتجاه الجزئيات المحسوسة، حتى لنظن بأنه رسالة السماء إلينا شفقة منها علينا أن نسقط في هاوية المخالفات ووحول المستنقعات، رغم عدم استحقاقنا بواقع مسلكيتنا لهذه الرسائل التي تهدينا السراط المستقيم.
قال الحكيم الصيني كونفوشيوس: الضمير هو نور العقل لتمييز الخير من الشرّ، ويعرّف أفلاطون النفس بأنها جوهر روحاني حيّ شفاف خالد يقبل العقل والجهل. فإذا ربطنا هذا التعريف بما قاله كونفوشيوس، خرجنا بنتيجة مفادها ان للنفس وجهين. واحد عقلاني نوراني يعتمد القانون السببي والاستقراء المنطقي والإلهام الإبداعي، وآخر ظلماني ضدّي يعتمد إغراء الشهوات والانجذاب الى الشبهات متخذاً لها طرق الكذب والتدنيس والطمع والجشع بغية الوصول والتواصل. وبعضهم شبّه النفس بساحة معركة تتصارع فيها طبائع العقل من نور وخير وعدل وتواضع ومحبة مع طبائع الظلمة والشرّ والاستبداد والاستكبار والعدوانية، فإذا انتصرت طبائع العقل قوي النور وضعف الظلام، قوي الخير وضعف الشرّ، قويت المحبة وضعفت العدوانية.
ونحن نقول أن قوى النور والعدل والحق والخير والجمال إذا كانت متيقِّظة باستمرار، مهيمنة على سلوكيات الإنسان وأفكاره ونواياه، سمينا ذلك عقلاً. وقلنا هذا إنسان عقلاني، فهم الغاية التي وجد من أجلها، وفهم القوانين الأزلية المنقوشة على جوهر نفسه منذ بدء التكوين، كقانون الحركة جوهر هذا الوجود، وقانون التطور والارتقاء ناموس الكائنات الحية، وقانون المعرفة هي السعادة القصوى التي تطلب لذاتها ولا تطلب لغيرها.
جاء في تضاعيف جمهورية أفلاطون ان من واجب الإنسان الحكيم ان يسعى إلى تحقيق كماله الإنساني، وذلك بمعرفته لنفسه وبمعرفته لربّه. وهذا السعي هو سفر دائم الى الله لا تنقطع حركته إلا في النفوس الميتة. وهذا السفر لا يبغي وصولاً لأن الله مطلق منزّه كلي مجرّد، بينما عقل الإنسان لا يستطيع ان يمارس علمه وعمله إلا عبر حواس الجسد وجوارحه المادية المربوطة بعالم الجزئيات والمركبات المحسوسة، فكيف يصل الجزئي المحسوس الى من يتصف بالتنزيه والتجريد!. ولكن الوصول الى شيء والتواصل شيء آخر، نحن بضمائرنا وبصائرنا نتواصل مع الله ولا نصل اليه، بل نبقى في شوق دائم للسفر على ظهر براق المحبة التي هي الطهارة الحقيقية لضمائرنا وعقولنا.
أما المتصوف الجنيد فقال: الضمير الحيّ يجعلك تشعر بنعيم الراحة وسعادة الطمأنينة وإن كنت نائماً على الشوك.
اما الشاعر الفرنسي راسين فقال: قد يشعر المرء بوخز الضمير وهو متمتع بكامل صحته. والشاعر الإنكليزي شكسبير قال: الضمير الحيّ هو عين الله على الإنسان الكائن العاقل. أما المتصوف الشبلي فقال: لا تخشى رأي الآخرين فيك بل إخش حكم الضمير. أما إبن باجه فقد قال: لا سعادة تعادل راحة الضمير لأن راحته هي الطمأنينة التي عناها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عندما خاطب النفس المؤمنة قائلاً: ايتها النفس المطمئنة إرجعي الى ربّك راضية مرضية. فكأن الطمأنينة هي أكبر هبة يمكن أن تعطى من الله للنفس البشرية. أما الأمير التنوخي فقال: أربعة أشياء تخدّر الضمير وتكاد تميته: المال والسلطة والشهوة والمعاندة. وقال بعضهم: إن من أهم البراهين على وجود الله أن الشرير قد ينجو من عقاب القوانين ولكنه لا ينجو أبداً من عقاب ضميره، وهذا يدل على أن الحياة ليست عبثية وأن الإنسان لم يوجد سدى.
ساهم في إعداد النص، كمال سري الدين.
حرر في: 17 جمادى الاولى 1432هـ. الموافق 20/5/2011 م.