المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الخميس ٢٥ نيسان ٢٠٢٤ - 16 شوال 1445
  قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ([البقرة183]. سأل هشام بن الحكم الإمام جعفر الصَّادق عن علة الصيام فقال: انَّما فُرِضَ الصِّيام ليستوي به الغنيُّ والفقير، وذلك لأنَّ الغنيَّ لم يكن ليجدَ مسَّ الجوع فيرحم الفقير، فأراد الله سبحانه ان يُذيق الغنيَّ مسَّ الجوع ليرقَّ على الضَّعيف ويرحم الجائع.

ونحن نعتبر ان هذا واحدٌ من أوجه حكمة الصيام في حق الأغنياء، لأنَّ الصَّوم فُرِضَ على الفقير كما فُرِضَ على الغنيّ.

وقد جاء في كتاب "منهاج العارفين" للإمام الغزالي عن الصَّوم: فإنَّ الصَّوم فناءُ مرادِ النفس، وفيه صفاء القلب، وضمارة الجوارح، والتنبيه على الإحسان إلى الفقراء، والالتجاء إلى الله، والشكر على ما تفضل به من النِّعم وتخفيف الحساب.

وفي فضل الصيام قال رسول الله (ص) لكل شيء زكاة وزكاة الأبدان الصّيام. وقال (ص): لكُلِّ شيءُ بابٌ وبابُ العبادة الصَّوم. وقال الله تعالى: كُلُ عمل بن آدم له الاَّ الصّيام فانه لي وأنا اجزي به، والصيام جُنَّة أي وقاية. وللصّائم فرحتان يفرحهما، إذا افطر فَرِحَ وإذا لقي ربَّه فَرِحَ بصومه (رواه الخمسة).

وقالت السَّيدة فاطمة الزهراء في خطبتها بانَّ الله جعل َالصَّوم تثبيتاً للإخلاص. وقال تعالى: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا([العنكبوت69]. والجهاد هو جهاد النفس بقهر شهواتها التي هي مرتع الشياطين، وبقمعها ينقطع تردُّدهم وينكشف للعبد جلال الله وكان محجوباً عن لقائه، فمن هذا الوجه صار الصوم باب العبادة. وفي الصّوم تشبُّه بالملائكة، والإنسان رتبتُهُ فوق رتبة البهائم وتحت رتبة الملائكة، فكلما انهمك في الشهوات انحطَّ إلى أسفل والتحق بغمار البهائم. وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليّين والتحق بأفق الملائكة. والملائكة مقربون من الله عز وجل. وقد قيل: لو لم يكن في الصّوم سوى الارتقاء من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالملائِكة الرُّوحانية، لكفى به فضلاً وتوفيقاً.

القضاء والفدية في الصوم:

"قال تعالى: )أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( [البقرة 184]. فالأيام المعدودات هي أيام شهر رمضان، والمريض والمسافر يجوز لهما الإفطار لأنه سبحانه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض.

فإذا ترك الإنسان أياماً من شهر رمضان لم يصمها، كان واجباً عليه أن يقضيها بعد رمضان.

والمُراد بقوله: )والَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ([البقرة 184] فقد جاء في تفسير الصافي: فالذي يطيقون الصوم، يعني يكون الصوم بقدر طاقتهم ويكونون معه على مشقة وعلى عسر، لم يكلفهم الله على سبيل الحتم. كالشيخ والحامل ونحوهما بل خيرهم بينه وبين الفدية توسيعاً منه ورحمة ثم جعل الصوم خيراً لهم من الفدية في الاجر والثواب إذا اختاروا المشقة على السعة.

أما الكفارة: فهي صوم شهرين متتابعين، وليس فيهما شهر رمضان، فإن لم يستطع الصوم أطعم ستين مسكيناً، أي في مقابلة كل يوم من الستين إطعام مسكين، وإنما يجب في الصوم القضاء والكفارة إذا جامع الرجل امرأته متعمداً وهو صائم في رمضان، وفي هذه الحالة يجب عليه القضاء والكفارة على الطرفين.

وجاء في أسرار الصّوم وشروطه الباطنة للإمام الغزالي: اعلم انَّ الصوم ثلاث درجات، صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واليد والرِّجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنيَّة والأفكار الدُّنيونيَّة، وكفه عما سوى الله بالكليّة.

فنحن نعلم ان صوم العموم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان من الفجر إلى غروب الشمس، وجاء في الحديث الشريف: ما عُبد الله بأفضل من عفة بطن وفرج. وأما صوم الخصوص وهو كفُّ الجوارح عن الآثام، فتمامه بستة أمور:

- الأول: غض البصر وكفُّه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذِمّ ويُكرِه ويُلهي...

قال النبي(ص): النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه. وعن النبي(ص) أيضاً: خمسٌ يفطِّرن الصَّائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة.

- الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والمراء... وإلزامه السكوت أو تلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان. وقد قال النبي(ص): إنما الصوم جُنّة، فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وان امرؤٌ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم. ويؤيدُهُ في المحجة البيضاء بقول الإمام جعفر: من اغتاب مُسلماً بطل صومه ونقض وضوءه.

- الثالث: كفُّ السمع عن الإصغاء إلى كُلِّ مكروهٍ، لانَّ كُلَّ ما حُرِّمَ قوله حُرِّم الإصغاء إليه، ولذلك سوَّى الله تعالى بين المستمع للكذب وآكل السُّحت، فقال: )سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ([المائدة42]. فالسكوت على الغيبة حرامُ، ولذلك قال النبيُّ(ص): المغتاب والمستمع شريكان في الإثم.

- الرابع: كف بقية الجوارح من اليد والرِّجل عن المكاره، وكفُّ البطن عن الشبهات.فلا معنى للصوم وهو كف عن الطعام والحلال، والإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم مصراً. وقد قال النبيُّ (ص): كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش.

- الخامس: ان لا يستكثر من الحلال في وقت الإفطار بحيث يمتلئ، وكيف يُسْتَفادُ من الصَّوم في قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند إفطاره ما فاته ضحوة نهاره، فَرُوْحُ الصَّوم وسرُّه تضعيف القُوى التي هي وسائلُ الشيطان في القود إلى الشُّرور، ولن يحصُل ذلك إلا بالتَّقليل، وهو ان يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يَصُمْ، بل إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلا ينتفع بصومه.

- السادس: ان يكون قلبه بعد الإفطار معلّقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء، لا يدري ان يقبل صومه فيكون من المقرَّبين أو يُردّ فيكون من الممقوتين، وإذا كانت العبادة شطرين : اكتساب واجتناب، فان الصوم بحقيقته وجوهره يُمَثِّل شطر الاجتناب تمثيلاً كاملاً في قوله تعالى: ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ([السجدة17]. قيل كان عملهم الصوم. فأَكْرِم به من عبادة تُوصل إلى ما لا أذن سمعت، ولا عين رأت، ولا خطر على قلب بشرٍ.

ملاحظة هامة في الصوم:

وليس هناك أفحش من المجاهرة بالإفطار في شهر رمضان، في مجتمع إسلامي، على مرأى ومسمع من الصائمين، لان ذلك يؤذي شعورهم، ويجرح إحساسهم، ويوجد الريبة لديهم. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين.

ولو كان الإنسان قد أفطر بسبب أو عُذر، فعليه أن يُراعي شعور غيره من الصائمين، وأن لا يعرّض نفسه لسوء الظنّ عندهم، فمن أدراهم أنه معذور، وأن إفطاره لهذا السبب أو ذاك، وهو لا يستطيع أن يخبر كلّ من يراه أنه مفطر بعذر شرعي. ويستطيع هذا المفطر بعذر أن يأكل ويشرب داخل بيته، أو بعيداً عن الأنظار، لكيلا يشيع الظنّ السيئ حوله.

حرر في: 7 ربيع الأول 1430 هـ. الموافق 3/3/2009 م.

معارف توحيدية

صدر عن مكتب مشيخة عقل

طائفة الموحدين الدروز
  معارف توحيدية