الإنسان بجوهره، عقلٌ يفكِّر ولسان يعبِّر. بعقله اكتسب شرف السيادة فغدا محور هذا الوجود وغايته في تحقيق كينونته وتحقيق ما وجد لأجله.
إنه جسر العبور من الوجود المادي اللاواعي إلى الله الغاية والنهاية. وهذا الإنسان هو ضمير الله في هذا الوجود، إنه وحده الذي يعي وجود ذاته، ويعي وجود ما هو كائن خارج ذاته، ويعي ما يشرق عليه من أنوار النعمة الإلهية.
ولأن الإنسان بوعيه وعقله هو ضمير الله الحي وخمير عجين خبزه الوجودي، اعتبرت عقيدة التوحيد ان رأس الكبائر هي تعدي الإنسان على عقله ونفسه لأنها بمثابة إعلان العدوان على الله سبحانه وتعالى.
جاء في ألواح الحكمة الهرمسية: يا أيها المؤمنون ان مولاكم الحق قد أنار عقولكم بالحكمة وأما القاتلون لعقولهم أو لعقول الآخرين فلهم وأد قد أعد لهم، ولو فتح لضجت منه نيران الدنيا يُقال له السعير.
وجاء في كتاب الله العزيز: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى"، وقال تعالى: "وان ليس للإنسان إلا ما سعى".
وما تعاطي المخدرات والإدمان عليها إلا تعدٍ للإنسان على نفسه، ومحاولة وقحة لإتلاف عقله أو قتله بالكلية. وإذا كنا نعلم أن الإنسان لم يكتسب هويته كإنسان إلا بفضل العقل الذي وهب له، علمنا ان إتلاف العقل أو قتله هو تنازل الإنسان عن إنسانيته وعودته القهقرية إلى مرتبة الحيوان الأعجم، الذي لا يعي معنى ذاته ولا معنى الوجود ولا معنى الألوهة.
وبما ان الإنسان كائن إجتماعي بالفطرة كما عرّفه أرسطو، كان من أهم أسباب تطوره وارتقائه العيش في مجتمع منظم تحكمه أعراف وقوانين، توازن بين شرائحه وطبقاته وطوائفه، مؤمِّنة السلام العميق تحت أجنحة العدالة والحرية، وتكريس حق كل فرد في العلم والعمل، والتفاعل الإيجابي مع الآخرين.
ولما كان مجتمعنا اللبناني قد تحول بعد حروبه الأخيرة إلى ساحة مفتوحة على صراع الحضارات والإيديولوجيات، الأمر الذي ساعد على إشاعة الفوضى وكرّس مبدأ الغاية تبرر الوسيلة. هذا المبدأ الذي عبث بالأعراف والتقاليد وأساء إلى هيبة القوانين وأشاع مناخاً عبثياً عدمياً جعل جيل الشباب ينجذب باتجاه المحرمات التي تحاكي لغة الغرائز الجامحة والعواطف المحمومة.
في هكذا مناخ عبثي عدمي توقف أو كاد يتوقف عمل العقل الفردي والجماعي الذي هو نظام وتنظيم وعدالة وتوازن ومسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه المجتمع والله، لتتحرك الغرائز المتفجرة التي تعطي الإنسان ملذات سريعة آنية سرعان ما تنقلب على نفسها ويولد من قلب أحشائها ألماً وكآبة وإحساساً بالمهانة لا حدود لها. هذا هو مناخ المخدرات، العقل صامت والغريزة تتكلم، التنظيم في إجازة والفوضى سيدة الموقف، الخير العام مشلول والمصلحة الفردية تصول وتجول، المحبة التي تغذي نزعة الإنسان ككائن اجتماعي غائبة والكراهية التي تغذي نزعة التعدي على النفس والآخرين في جهوزية تامة. والنتيجة لكل ذلك فكر عدمي وتصرفات عبثية تبتغي لذّة آنية سريعة يعقبها إحباط، فيأس، فاضمحلال. فأين الشباب من قوله تعالى في كتابه العزيز: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم؟؟!"
فالله سبحانه وتعالى قوّم الإنسان بالعقل ثم جعله ينسفل بعصيان نداء العقل وإتباع نداء الغرائز. أما الذين آمنوا بأن هذا الوجود قد وُجد من أجل غاية ذَكَرَها الكتاب العزيز حيث أن الله لم يخلق الخلق إلا ليعبدوه أي ليعرفوه. ومعرفة الله تتحقق في استشعار الإنسان لعظمة الخالق، في الصدق والتصديق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتيقن بأن هذا الوجود وجود غائي، كل سبب فيه يتبع سببه وان العبثية والعدمية رجس من عمل الشيطان علينا اجتنابه.
في الانسيكولوبيديا البريطانية ورد عن مخدر الكوكايين ما يلي:
لا حصانة لأحد ضد هذه الآفة المدمرة لا القوي ولا الغني ولا المشرّد ولا المحبط. وحتى حين لا يفتك الكوكايين بالجسم فإنه يفترس الذات ويشتت الإرادة مبيداً كل ذرة كرامة وثقة حاملاً نزعاً أقسى من الموت.
فإذا كان الكوكايين يفعل كل هذه الأفعال المدمرة فكيف إذن بالمخدرات الكيمائية الرخيصة التي تُرَوَّج حالياً عن تعمد وسوء نية إلى جيل الشباب في المدارس والجامعات مستغلّين إحباطهم وضياعهم في مجتمع فوضوي عبثي، ومحاولين إغراءهم بأن المخدرات تنشط قواهم الجنسية، خصوصاً وأنه لا رقابة من قبل الدولة على الأفلام الخلاعية وشبكات الإنترنت التي تحاول عن طريق الترغيب والإغراء بإقناع الإنسان ان سعادته هي الملذات وانه كلما ازداد شذوذاً في طلب اللذة كلما حلت السعادة في قلبه وحل هو في قلب السعادة حتى الوصول إلى الهاوية. وما أدراك ما الهاوية؟!
أخيراً وليس آخراً، إن الواجب الإنساني والأخلاقي يدعونا جميعاً للتآزر والتعاضد والتعاون من أجل الوقوف في وجه مثل هذه المشاكل التي تعصف بالمجتمع وأبنائه ولا يكون ذلك إلا عبر الإرشاد والتوعية بالمخاطر الجسيمة التي تنتج عن مثل هذه الآفة وتوضيح الشرع الديني الذي يقضي بتحريم تعاطي المخدرات وكل ما يُفسد العقل ويُذهِب الروح، وتبيان أن جسد الإنسان أمانة أو وديعة ينبغي علينا الحفاظ عليها وصيانتها من المخاطر.