يقول أفلوطين في تاسوعياته إن كل موجود إزدوج بضدّه والتزم به فأصبح ضدّه منه بمنزلة اللزوميات. إلا الله عزّ وجلّ فهو واحد أحد متفرّد بذاته لا ضدّ له ولا شريك ولا ممثول.
ثم يستطرد فيقول إن النفس الإنسانية ازدوجت بالجسد فتضاددت معه في المطالب والغايات. فغاية النفس السموّ إلى الأعلى باتجاه الأنوار الشعشعانية حيث الموجودات معان كليّة مجردة ومُثُل كاملة لا يعتورها النقص من أمامها أو من ورائها وخالدة لا يمسها الفناء لأنها بسيطة لا تركيب فيها ولا انحلال. وغاية الجسد الإنجذاب إلى الملذات الحسيّة المركبة، كلذّة المأكل والمشرب والنكاح والنوم والإسترخاء. وتقول آداب التوحيد إن بين النفس والجسد نزاع وصُراع أضداد. فلا النفس قادرة أن تُغادر الجسد لأنها لا تستطيع أن تكتسب علومها وتُطهِر أعمالها إلا من خلال جوارحه، ولا الجسد قادر أن يقوم بذاته مستغنياً عن النفس. فهما متلازمان متضادّان. تحاول النفس ان تطبّع جوارج الجسد بعناصرها النورانية حيث الحرارة هي الإقبال على طاعة الله لا حرارة الإقبال على الملذات الجسدية، وحيث البرودة هي برودة الاستقرار في اليقين والطمأنينة المعرفية، لا برودة الإسترخاء والكسل والراحة، وحيث اليبوسة هي قوة نور العقل في اكتناه المعرفة وتثبيتها في جوهر النفس، لا قوة ظلمة الجسد وكثافته وانجذابه إلى كل كثيف مظلم، وحيث الرطوبة هي التواضع أمام الحقيقة وليونة الإقرار، لا رطوبة الشهوات والغرائز البهيمية.
ولذا اعْتُبِرَ الصبر من أهم الفضائل كما قال الإمام علي بن أبي طالب: "عليكم بالصبر فَإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد "ولا خير في جسد لا رأس معه ولا في إيمان لا صبر معه. لقد أدرك الإمام علي أنه مع قلة الصبر تنتصر نزوات الجسد على قيم النفس ومُثُلِهَا العُليا فينسفل الإنسان ويرتّد إلى مرتبة البهيمية. فحلاوة قدرة النفس على جذب الجسد إلى الأعلى حيث الملذات الروحانية مروءة وشهامة وشجاعة وكرم ومعرفة وعرفان. هي التي تمحو المرارة التي سببها الصبر الطويل والمعاناة القاسية. وقال النبيّ الكريم في الصبر: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. "لقد أدرك النبيّ الكريم أن الإنسان اجتماعي بالفطرة لا يستطيع أن يرى نجاحه أو فشله، سعادته أو تعاسته، قوته أو ضعفه، إلا على مرايا الصبر الحقيقي. لا الهرب من المجتمع إلى الإنعزال والتقوقع والإنطواء على الذات.
قال تعالى في كتابه العزيز: "والعصر. إنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصَوا بالحق وتواصَوا بالصبر".
تقول آداب التوحيد ان الإنسان لكي يحفظ نفسه ويصونها ويحقق الغاية التي من أجلها وجدت، يجب أن تكون الحقيقة مطلبه ومبتغاه وان تتجسد هذه الحقيقة عملاًً صالحاً على أرض المجتمع. وصبراً على أذى الناس وسلبياتهم فالمؤمن يقابل السلبية بإيجابية، والكره بالمحبة، والجبن بالشجاعة والظلم بالعدالة.
وورد أيضاً في الكتاب العزيز "ولنَبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص مِنَ الأموال والأنفس والثمرات. وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
نستخلص من ذلك ان الإنسان يُمتَحَن بالمصائب كما يُمتَحَن الذهب بالنار فإذا كان ذهباً خالصاً ازداد توهّجاً واصفراراً وإلا أسودّ واربدّ، وكذلك الإنسان المؤمن إذا رُمِي بمصيبة ليست وليدة الصدفة ولكنها ثمرة سوء عمل وغفلة وشكوك. "وإنَّ لكل المريء ما سعى".
قال تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور". وقال أيضاً: "سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".
أما الشاعر الزهاوي فقال:
تمسّك بحبل الصبر في كل كربة فلا عسرُ إلاّ سوف يعقبه يُسْرُ
والصبر يشبه الشجرة التي جذورها مرّة ولكن ثمارها حلوة المذاق. وعندما سئل أحد المشايخّ الزهّاد كيف ينام على حصير ويستريح، أجاب: "من يتجاهل قسوة سريره ينم هنيئاً ومريئاً". ثم أردف قائلاً: "ليس الشقاء أن تكون محروماً من متاع الحياة الدنيا بل الشقاء أن تكون عاجزاً عن احتمال ذلك الحرمان".
ولقد أظهرت الآداب التوحيدية أن النفس العاقلة إذا استطاعت أن تجذب إليها وتعقله بطبائعها النورانية كان ذلك خيراً لها ورِفعَة لِمقامِها. ولما كانت سعادة النفس هي في إدراك المعلومات الإلهية والفضائل البرهانية وفي معرفة وجود الناسوت التي توصلها إلى العلم بتنزيه اللاهوت، تماهى الجسد مع النفس في ذلك فتعفف حتى أصبحت العفّة طبعاً من طبائعه وتشفف حتى غدا كقالب من النور البسيط المجمّد وليس من الصلصال المركب الكثيف.
عندها يصبح الإنسان الموحّد بمنزلة الملاك لأن عقله النوراني استطاع أن يمتلك غرائز جسده الشحماني. وهذا أقصى مراتب تحقيق الإنسان لإنسانيته وتماهيه مع العقل الكلي سيّد هذا الوجود ومدبّر شؤونه بالتأييد الإلهي لا ينقطع عنه طرفة عين.
ساهم في إعداد النص، كمال سري الدين.
حرر في: 11 جمادى الأولى 1432هـ.
الموافق: 15/4/2011م.