المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الجمعة ٢٦ نيسان ٢٠٢٤ - 17 شوال 1445
  معارف توحيدية  
 إذا عرَّفنا الفساد تعريفاً منطقياً، قلنا ان المفهوم الفاسد هو المفهوم الذي لا يستقيم لمنطق العقل، ولا يتناسب مع ما انطبع في غرائز العقول من البديهيات التي تُبرهن بها الأشياء، وهي ليست بحاجة إلى براهين. وإذا ما قلنا ان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أعطي العقل ليكون ضمير الله وخليفته في هذا الوجود، فهو أيضاً الكائن الوحيد الذي أعطي حرية الإختيار بحيث تكون القوانين التي تسيّره ليست قوانين جبرية كما القوانين التي تسير الطبائع والإستقصات والأفلاك والمجرّات. وبهذا يكون جوهر الحرية مفطور في ذاتية الإنسان منذ بدء الإبداع. فالحرية من العقل كالنور من العين، والحرف من المعنى، والنغم من القيثارة. فكما إن الشمس بطبيعتها مضيئة، كذلك الحرية بطبيعتها مسؤولة. الحكمة الهرمسية علمتنا أن المبدعات جميعها مزدوجة، وكل شيء فيها يحتاج إلى ما يزدوج به لينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل (ليبقى الله وحده لا شريك له مختص بالفردانية). لذا كانت الحرية غير موجودة بالفعل إلا في إطار المسؤولية. وما الأخلاق في واقع الأمر إلا نتاج هذا الإزدواج بين العقل والحرية من جهة والحرية والمسؤولية من جهة أخرى.
 
عندها يكتمل مثلث الحكمة الهرمسية عقل، حرية، مسؤولية، ثلاثة أقانيم في جوهر واحد هو القبس الإلهي الذي يُعطي للإنسان هويَته الإنسانية ويجعل منه المخلوق الأخلاقي المناقبي الوحيد بين جميع المبدعات، ويجعل منه المُؤْتَمَن على نفسه وعلى سائر المخلوقات. فهل حمل الإنسان الأمانة أم عبس وتولى وعاند واستكبر وعصى واستعصى!
 
جاء في كتاب الله العزيز (ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، وما هذا إلا تذكرة للإنسان بأنه حر في اختياراته ومسؤول عن هذه الاختيارات، وما كان الله ليبدع الإنسان سدى. وجاء في كتاب الله العزيز أيضاً: "وأمّا بنعمة ربك فحدّث"، وهل هناك نعمةٌ تعادل نعمة العقل الحر المسؤول الهادف للأخلاق المناقبية ومعدن الحقائق البديهية؟!
 
هل هناك نعمةٌ تعادل السفر في بحر المعرفة العرفانية حيث لمعات الفضائل البرهانية وكشفات أنوار ومعاني الأَحَدِّيَة والصمدانية؟ هل هناك نعمة تعادل التواصل مع الألوهة بواسطة العقل والنفس، كما يتواصل الشذا مع ورده والعبير مع بنفسجه والشوق مع حبيبه؟ وهل هناك رفض للنعمة الإلهية يعادل العناد والاستكبار والأذى والتخريب، وعدم رضانا بما نملكه وما نحن عليه وطلبنا بوسائل ملتوية دائماً وأبدا للمزيد، وعدم قناعتنا بحلولنا حيث وجدنا وسعينا للذهاب دوماً إلى مكان أقصى وأبعد، ومصادرة عقول الناس وحرياتهم، ومنعهم من تحقيق إنسانيتهم عبر اكتساب العلم وممارسة العمل والتحرك الهادف باتجاه التطور والارتقاء؟
 
وهل هناك رفض للنعمة الإلهية يعادل ما قام به الغرب؟ فالحداثة والعولمة فصلت بين المعرفة والفضيلة، فكثرت المعرفة حتى الفيضان وشح نبع الفضيلة حتى أقفرت الأنفس وأجدبت الضمائر، وانفلتت غريزة التملك من عقالها، فحولت الإنسان إلى وحش مفترس، ليته يقتل عن جوع ليأكل فقط، ولكنه يقتل ليتلذذ بتعذيب ضحيته واستعراض قوته وطبائعه العدوانية. المعرفة التي تمشي على رأسها ولا تمشي على قدميها تحوّل الإنسان من كائن عاقل حر مسؤول اجتماعي بالفطرة إلى كائن مستهلك حتى أقصى مراتب الجشع في الاستهلاك.
 
جاء في المدينة الفاضلة للفيلسوف الفارابي: إن الفضيلة هي الوقوف عند مقادير الأشياء ومحاكاة الشيء لطبيعته التي فطر عليها. فالطبيعة التي فطر عليها اليسر هي الكرم والعطاء، والطبيعة التي فطر عليها الفقر هي التعفف والإباء، والطبيعة التي فطرت عليها القوة هي المروءة والعفو، والطبيعة التي فطرت عليها السلطة هي العدل ووضع الأمور في نصابها الصحيح، أما الطبيعة التي فطرت عليها الرعية فهي الطاعة والولاء.
 
فأين نحن اليوم من محاكاة طبيعة الأشياء واستلهام فطرتها، حيث قال الله تعالى في كتابه العزيز: "اعتبروا يا أولي الألباب"، فإنما كان القصد بذلك ان ينظر الإنسانُ بعين بصيرته إلى مجرى الأمور في سياق الطبيعة والمجتمع، ويأخذ العبر بمنطق عقله ورهافة ذوقه. فإذا نظرنا اليوم إلى (ما يُفعل) بحداثته التي أفرطت في الاستهلاك الفاسد حتى وصلت إلى مراتب الجشع والتكالب، ولم تكتف بإفراطها الذاتي بل حاولت، ولا تزال، تعميم منهجها وعولمته ليشمل البشرية قاطبة. فمن تعميم الإباحة والخلاعة الجنسية حتى أصبح الحب والإخلاص مدعاة للهزء والسخرية، والتعفف علامة تخلّف وتعصُب، إلى تفكيك للأسرة واستباحة جميع المحرمات حتى أصبحت فلسفة الإنسان العصري وعلامة وجوده ما قاله جان بول سارتر في كتابه الغثيان: "أنا أرفض إذن أنا موجود". فهل وصلنا إلى زمن أصبح فيه رفض القيم الدينية والعقلية وإفساد الإنسان لفطرته ولما انطبع في جوهر نفسه من البديهيات هو علامة وجودنا وبرهانه؟! هل وصلنا إلى زمن أصبح فيه الإنسان المحصن عن الإباحة الجنسية وتعاطي المخدرات إنساناً متخلفاً متعصباً، والإنسان الذي لا يرعى ذمة لمحارمه وجيرانه وأهمل قيم مجتمعه بزرع الفوضى والضياع والتشتت والجري مع الأهواء وإطلاق العنان للغرائز واستباحة أعراض الناس وممتلكاتهم علامة الإنسان الذي يماشي روح العصر بالحداثة والعولمة؟؟؟!
 
إذا كان الفيلسوف الإنكليزي "هوبز" قد قال بأن طبيعة الإنسان هي طبيعة ذئبية، فهو يتلذذ بانتزاع الأشياء من الآخرين تعدياً واغتصاباً ويكره أن يأخذ محاورة وتفاهماً وتبادلاً. هو بطبعه ينشد السيطرة والتعدي واحتكار الخيرات لنفسه وذريته، فهذه هي لذته وسعادته. فنحن أبناء التوحيد والعرفان نقول ان سعادة الإنسان هي في اكتساب المعرفة المتآلفة مع منطق العقل وبديهياته، وفي السعي لبناء مجتمع عادل متوازن كل فرد فيه يتواجد في المكان الذي توجده فيه طاقاته وكفاءاته. نحن أبناء العقل ولسنا أبناء الأهواء العنصرية والفئوية والغرائز الذئبية. فسعادتنا جزء من سعادة الآخرين، وكرامتنا جزء من كرامتهم. شعارنا السلام عليكم، ومبدأونا صدق اللسان والعدل الذي هو التوسط والعقل الذي هو التبصُّر ومعرفة مقادير الأشياء والوقوف عند حدّها.
 
ساهم في إعداد النص، كمال سري الدين.
 
حرر في: 2 ذو القعدة 1431هـ. الموافق 8/11/2010 م.