المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الثلثاء ١٩ آذار ٢٠٢٤ - 10 رمضان 1445
  معارف توحيدية  
  ثمَّـة محلّ للمسؤوليَّة في إقدام المرءِ على الزّواج مقدّمةً لتأسيس أُسرة، يوهَبُ لهُ فيها ذرِّيــَّــتُه، ويحقِّقُ بها نصيــبَه من عِمَارة الأرض كمَا قالَ تَعالى ﴿هُــوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَــرَكُم فِيــهَا ﴾ (هود:61)، أي هو ﴿الَّذي خلقكُم من نفسٍ واحدةٍ وخلقَ منهَا زوجَها وبثَّ مِنهُما رجالاً كثيرًا ونساء﴾ (النساء: 1)، "ومكَّنكم من عِمارةِ الأرض، واستثمار ما فيها، والانتفاع بخَيرها". لذلك، كانت هِبةُ الذّرِّيــَّة غايةٌ في الطبيعةِ يتحقَّق بها سياقُ الحياة المتدرِّج إلى بَدوِ المعنى، وكانتِ الحاجةُ إليها متأصِّلةً في النَّفسِ كما تتبدَّى لدى أنبياء كبار في آياتٍ بيِّنات. فقد رغبَ النبيُّ زكريّا u في الوَلد، فقامَ فصلَّى، ثمَّ دعا ربَّـــهُ سرًّا، فقال ﴿رَبِّ هَب لِي مِن لدُنْكَ ذُرِّيــَّةً طيِّبةً إنَّكَ سميعُ الدُّعاء* فَنادَتهُ الملائِكةُ وهُو قائمٌ يُصلِّي فِي المِحرابِ أنَّ اللهَ يُبشِّرُكَ بيَحيَى مصدِّقًا بكلمةٍ منَ الله﴾ (آل عمران:38-39)، وفي ذلكَ دلالةٌ كبرى على ما فِي سرِّ القِرانِ من أمرٍ جَلَل، فلاً يليقُ بالعاقلِ أن يُقدِمَ عليه إلاَّ وهو واعٍ قدر إمكانِه مقاصدَ حِكمَة الخالقِ الحكيم والرَّبِّ الرَّحيم.

يُنبِّهُ الأميرُ السيِّدُ ق. في معرِض حديثِه عن تربــيةِ الولَد، إلى وجوبِ تحقيق "شروط عظيمة" و"مقدّمات" أساسيَّة، لا بُدَّ للمرءِ النّابِهِ من تطبيقِها تمكينًا له من القدرةِ على تأسيس "بيته" على بـيِّنةٍ راسِخَةٍ من حُسن التَّدبير القائِم علَى الوعيُ ووحدةِ القلب والعقل معًا. فعلَيه تقعُ، بادئ ذي بدء، المسؤوليَّةُ في انتخابِ الزَّوجة التي هي معهُ في مقامِ المساواةِ في النَّفسِ والإنصافِ في اليدِ. وهذا يصحُّ عكسيًّا في تحديد مسؤوليَّةِ "العاقلةِ" حيث أن حقَّها الأساسيَّ في الرِّضى والقبول يمنحُها في إرادتِها قرارَ اختيار الأصلح والأوفق.

إنَّ إدراكَ معنى هذا الحدَث الأساسيّ في حياةِ المرء، والوقوفَ على فهم غاياته الحقيقيَّة بالحِلم والرَّشاد، من شأنِه أن يوطِّدَ قواعدَ البِناءِ في سياقٍ إنسانيّ راق، وتاليًا، فإنَّه يمكِّن الزَّوجَين من مواكَبَةِ مراحِلَ نشوءِ الأُسرة واكتمالها بثقَةٍ وسدَاد، بعيدًا قدر الإمكان عن مخاطر العثَرات والصعوبات وزعزعة ركائز الانسجام والتفاهُم.

ثمّة مسؤوليَّة مشتركة ومطَّردة تقعُ على عاتق المتأهِّلَيْن للإنجاب في مراحل الإخصاب والحـَمْل والإرضاع ولزوم انقضاء المهلة الوافيَة قبل التفكير بالإكثار. هذه كلّها تتطلَّبُ وعيًا تربويًّا بالغَ اللطافَة، والتزامًا وجدانيًّا بدقائِق التّصرُّف الحكِيم إزاءها تحت طائلةِ تحمُّل التَّبعات المحسوبَة على الأوليَاء قبل الوصول إلى مرحلَة التَّربيَة المباشرة.

إنَّ الإخصابَ غايةٌ مرتبِطةٌ بالنـيَّةِ الخَـيِّرة لسُنَّةِ الزّواج، الأمرُ الَّذي مِن شأنِه أن يفرضَ قيُودًا في العلاقَة بعد التأكُّد من حُصوله حِفاظا على صِحَّةِ المرأةِ والجنين. كذلك هوَ يُوجبُ مراعاة وَضع الـحَمْل لضروراتٍ صحِّيَّة ونفسيَّة وإنسانيَّة مرتبِطةٌ من جهةٍ بإحجَام الرَّجُل عنِ التَّصرُّف إلاَّ وفق ما يقتضيه واجبُ الحفاظِ على "حياتَيْن"، والسَّهر على سلامتِهما في عدَّة أوجُه، ومن جهَةٍ أخرى امتِناع الحامِل عن كلِّ ما من شأنِه التأثير بالضّرَر على حَال الجنين المتكوِّن من كلِّ النَّواحي. ثمَّ تأتي فترةُ الإرضاع بعد الوَضع، وهذِه تفرضُ الأخذَ بـمُتطلِّباتٍ عدَّةٍ متعلِّقَة بالعنايةِ بنظامِ الغذاءِ، والاستقرار النّفسي، واستِكناه معنى الأبُوَّة و الأمُومَة مع ما تتطلَّبُه تلك المشاعر السامِيَة من تصرّفاتٍ لائقَة، ومسالِك رصينَة.