المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الثلثاء ١٩ آذار ٢٠٢٤ - 10 رمضان 1445
 كما السنونو يتعشق الربيع فينذر نفسه له بشيراً، وكما البلبل يتعشق الورد فيغني من شذاه الحاناً، وكما الأرض تعشق الغيث فتنسج من رذاذه مروجاً، كذلك الإنسان يتعشق القيم التي تجذبه لأصله العلوي ليستحق لقب أشرف المخلوقات، وما خُصَّ به من نعمة العقل. الانسان المؤمن الذي تواصل بعقله مع قوانين الطبيعة وحكمة الوجود فعرف ان الله اودع سره جميع خلقه، وانه جعل لكل شيء سبباً. الانسان الذي عرف انه المخلوق الوحيد الذي يختار اعماله بملء إرادته وحريته ويتحمّل مسؤولية هذا الاختيار، وما عداه تُسَيِّرُهُ قوانين جبرية انفطر عليها بالطبيعة.

هذا الانسان الذي عرف انه المخلوق الوحيد الأخلاقي في هذا الوجود، إنه القادر على اختيار المعرفة او الجهل، الكرم، او البخل، الرفعة أو الدناءة.

قيل للأخنف من الجوَّاد من الناس؟ فقال: من يجود على المحتاجين بما يملك، فإذا كان يملك المال جاد به على الفقراء، واذا كان يملك المعرفة جاد بها على الجهلاء، واذا كان يملك السلطة جاد بالعدالة على الجميع. وقيل لحاتم: ما السخاء؟ فقال: هو ان تفتش عن الجائع فتطعمه، وعن الخائف فتجيره، وعن الشريد فتأويه وتلحقه بقبيلك.

قال تعالى في كتابه الكريم: "وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله"، وعلم الله بالخير رده الى فاعله في الدينا والآخرة أضعافاً مضاعفة. شَّبه الله ذلك بحبة قمح تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ولهذا قيل الفعل الذي يشِّبه أفعال العباد، فعل الله هو الكرم والإحسان لأن الله هو المحسن الكريم الرحمن الرحيم.

قال النبيّ (ص): السخي قريبٌ من الله، قريبٌ من الناس، والبخيل بعيدٌ من الله بعيدٌ من الناس. وقال أيضاً: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.

أما الكرم الحقيقي فهو الذي يربو مع الأيام وينمو حتى يستغني به المحتاج وتمنع حاجته، كأن تعطي الفقير فرصة لتعلم مهنة يعتاش منها بعرق جبينه، او تعطي القادر على العمل المتعطل لسبب او لآخر فرصة عمل كريمة.

اما ان تعطي الجائع ما يسد به رمقه لساعة او يوم ويغدو في اليوم الثاني جائعاً الى الرغيف وعزة النفس معاً، فهذا لعمري كرم المستبد الظالم الذي يظن انه لا يستطيع ان يكون قوياً الا اذا كان الآخرون ضعفاء، ولا مزدهر العمل إلا إذا كان الآخرون بطالين. انه الجهل الذي يسود بلادنا والغباء الذي نسوس به أنفسنا.

قال ابن عباس: الناس أربعة، الجوّاد وهو الذي يعطي ماله للفقراء وشجاعته للضعفاء وتواضعه لوجه الله الكريم، والمسرف وهو الذي يعطي ماله لملذات دنياه وجبروته لزاد آخرته، والمعتدل وهو الذي يعطي لكل ذي حق حقه، والبخيل وهو الذي يمسك يده وعقله عن نفسه وعن ربه وعن الناس.

قالت عائشة(ر): جبلت القلوب على حب من أحسن اليها وبغض من أساء اليها، ثم أردفت: من بذل دراهمه أحبه الناس طوعاً وإكراهاً.

وسُئِل الرستمي ما أمدح بيت قالته العرب في الكرم فقال:
ولم يقفلوا أبوابهم دون ضيفهم ولا شتموا خدامهم ساعة الأكل


أما أبو فراس أمير السيف والقلم فقال:
لنا بيت عل عنق الثريا رفيف مذاهب الأطناب سامي

تظلله الفوارس بالعوالي وتفرشه الولائد بالطعام


ولكن أجمل ما قاله العرب في الكرم وقرى الضيف ما قاله دعبل الخزاعي:
الله يعلم انني ما سرني شيءٌ كطارقة الضيوف النزَّل

ما زلت بالترحيب حتى خلتني ضيفاً وله والضيف رب المنزل

من ناحية أخرى يمكن القول: الكرم الحقيقي ما كان تحت مظلة قوانين العقل، والتزم قواعد المنطق وإلا جمح وشطن وتولد منه ضده فانقلب على صاحبه وعلى نفسه. الكرم الحقيقي هو في سياسة الناس سياسة عادلة صالحة تساهم في نمو قدراتهم بالإبداعية والإنتاجية والأخلاقية، وتجعل منهم أناساً يحترمون الإنسان في ذواتهم وفي ذوات الآخرين ويحترمون قوانين العقل التي أهمها قانون التطور والارتقاء، وقانون الحرية المسؤولة، وقانون ان الانسان كائن اجتماعي بالفطرة ينمو بنمو الجماعة ولا ينمو على حساب الجماعة.

ساهم في إعداد النص، كمال سري الدين.

حرر في: 17 جمادى الاولى 1432هـ. الموافق 20/5/2011 م.
  معارف توحيدية