المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الثلثاء ١٩ آذار ٢٠٢٤ - 10 رمضان 1445
  معارف توحيدية  
تتحدَّدُ مراحلَ التكوين وفقًا لعمليّتَي النموّ والتطوّر اللتين ترافِقان الكائن الإنساني المولود في بدايات حياته. ويُقصَدُ بالنموَ "التغيّرات الكمِّـيَّة في أجزاء ووظائف الكائن الحيّ، وما ينتج عن ذلك من زيادةٍ في قدرةِ الطّفل على التذكّر أو التّفكير أو الاستِدلال أو التعلّم أو الإدراك، فالطفل ينمو بهذه الصّورة عقليًّا وجسميًّا. وأمّا التطوُّر فيُقصَد به التغيُّر النوعي المؤدِّي إلى النضج" (خيري).

بصورةٍ عامَّة، تبدأ تلكَ المراحلُ بفترةِ الحَمل حيثُ يُسجَّلُ، قديمًا وحديثًا، حدوثُ مؤثِّرات هامَّة في أوضاع الجنين المختلفة. تتبعُها فترةُ الرّضاعَة، ثمَّ الحضانة، فالطفولة المبكرة، فالمتأخِّرة، وصُولاً إلى مرحلةِ المراهقَة التي يتخلَّلُها إدراكُ البلوغ قبل الوصُول إلى ما يُعتبَرُ سنّ الرّشد.

قِيلَ في الحِكمة القديمَة "إنَّ أوائلَ الأمُور هيَ التي يجِبُ أن تُراعَى لأنَّها الأكثر أهميَّة"، فالتَّعليمُ في الصِّغَر "أشدّ رسُوخًا، وهوَ أصلٌ لِما بعده، لأنَّ السَّابقَ الأوَّل للقلوب كالأساس للملِكات، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكونُ حالُ ما ينبني عليه" (ابن خلدون). والملكات الإنسانيَّة هيَ صفات راسِخة في النَّفس تصيرُ للشخصيَّة النّاضجة بمثابةِ العادة والخُلُق، فإذا كانت محمودَة باتّفاق التّربيَة والطّباع، تحقَّقَت بثباتِها الفضائلُ الشَّريفَة.

الأُم:

تتطلَّبُ المراحِلُ السَّابقةُ لسنِّ البلوغ الكثيرَ منَ الأمُور المتعلِّقةِ بالرِّعايةِ التَّربويَّة المتطلِّبَةِ متابعَةً تدريجيَّة، إذ أنَّ لكلِّ منها مواجِب ومقاربات هادِفة. ويتبدَّى دورُ الأمِّ أساسيًّا في السنوات الأولى لارتباطِها العضويّ والنّفسيّ والعاطفيّ بطفلِها الَّذي حَمَلتْهُ ﴿وَهْنًا علَى وَهنٍ وفِصالُهُ فِي عامَين﴾ (لقمان: 14)، "أي ضَعفًا كائنًا علَى ضَعفٍ، فإنّه كلَّما عظُم ما فِي بطنِها زادها ضعفًا إلى أن تضَع، والفِصالُ التّفريقُ بينَ الصبيّ والرّضاع... لذلكَ أجابَ r لِمَن سألهُ: مَن أَبِرّ؟ فقال: "أُمَّكَ ثمّ أُمَّكَ ثمّ أمّك" ثمّ قال بعد ذلكَ "ثمّ أباك" (روح البيان).

الأَب:

إنَّ رعايةَ الأب، لا سيّما فِي تلكَ الـمُدَّة منَ الزَّمن، تتطلَّبُ بصيرةً نافذة، لأنَّ القِوامةَ الَّتي لهُ، الواردةَ في الآيةِ الكَريمَة ﴿الرِّجالُ قوَّامُونَ علَى النِّساءِ﴾ (النساء: 34)، لا يجبُ أن تُقتَصرَ هنا علَى القِيامِ بالنفقَةِ الحَلال، والحِمايةِ المانِعَةِ من الخَلل وحسب، بل علَيه أن يوفِّرَ بسُلوكِه العَام، مناعةً تَحمي "عِيالَه" من التَّعرُّض المبَاشَر لعوامِل القَلق والاضطراب، وتثبِّتُ الأمانَ النَّفسيّ والوجدانيّ والمعيشيّ والصّحِّي. لهذا، يجبُ أن تُفهمَ مسؤوليَّة القِيام بالأمر هنا، أنَّهَا خاضعةٌ لحقيقةِ أنَّ "الحقَّ قَوَّامٌ عليهِما معًا"، بهَذا تتحقَّقُ الصِّلةُ بينَ أثر العاطِفَة من جهةٍ، وحضور الهَيْبَة من جهةٍ أُخرى. فإذا كانت عاطِفةُ الأمِّ مِن لطائِف الرُّحمَى، فإنَّ عاطفةَ الأب يجبُ أن تكونَ "مُضاءَةً بالعَقل" كي تستقِيمَ البيئةُ الأُسريَّة فوقَ أساسٍ صلبٍ يمكِّنُ من توفير الأجوَاءِ الممتازَة لمناخٍ تربويّ سليم من شأنِهِ إيجاد كلّ العوامِلِ المطلوبَة للمساهَمَةِ فِي تكوينِ الشَّخصيَّة الإنسَانيَّة الموزونَة فِي المستقبل.

أوائِل الأمُور:

أشارَ الأميرُ السَّيِّدُ (قَ) إلَى أنَّهُ من المستَحبِّ أن يكونَ أوَّلُ انطِلاق اللسَان بعبارةِ التَّوحيد، وأن يُعمَلَ منذ الصّغَر على ترسِيخ مظاهِر السّلوك المعتدِل ظاهرًا وباطِنًا، وأن تُعتَبر دلائلُ الحيَاء والاحتِشام في السَّمتِ إشارةً إلى "إشراقِ نور العَقل، وبِشارَة تدلّ على الأخلاق وصفاءِ القَلب" (الغزالي). ثمَّ يُحبَّبُ إليه الفعلُ الجَميل، والتّواضُع، والاتِّزانُ في الحرَكة، والتزامُ الأدَب في سائِر تصرّفاتِه. ويحذِّرُهُ من مغبَّةِ الأخلاقِ الرَّديئة كالكذب والحسَد واللجَاجة. ومنَ الحِكمَةِ أن لا يكون العِتابُ نهجًا متواترًا إذ أنَّهُ يؤدِّي إلى النّفور، وأن لا يصل الإلحاحُ في التّعليم إلى حدِّ الإرهاق إذ يؤدِّي بدَوره إلى نتائج مؤذِيَة لحالَة التّلقّي. ويجبُ أن يُحتَرسَ احتراسًا شديدًا ليُحفَظ من قرنَاءِ السُّوء، وأن يُعوَّدَ المشاركَة والأُلفَة مع الآخَر. ويُعمَل على اكتِسابِ الوعي بأنَّ الرِّفعةَ هيَ فِي العطاءِ لا فِي الأخذ، وهذهِ أُمور تُسخَّر لتمكين الرُّوح من استِشعار أنس المشارَكَة، لتَخرجَ إلى رحَابِ الإنسانيَّة بعيدًا عن الأنانية والفردانيَّة الخالصَة الَّتي هيَ "أسوأ أعداء الهدَف التّربويّ السّامي" كمَا وردَ في الأدَبِ القدِيـم.

ثمَّ أنَّـه بتدرُّج السّنوات "يُعوَّدُ على سلاَمةِ النُّطق، واستِقامَة اللغة، وتوسيع المدارك على قاعِدةِ تَنَاسُب طبيعَة العلُوم مع طبيعة النموّ العقليّ". وينبغي على الوالِدِ فِي ولدِه، والمعلِّمِ في مُتعلَّمِه، أن لا يستبدّ عليه فِي التَّأدِيب كما يقولُ ابنُ خلدون، "فالقسوةُ تُفسِدُ معاني الإنسانيَّة، وتُبعِدُ النَّفس عن الفضَائل والخُلُق الجَميل، بل يجبُ استخدام القُدوَة الحسنَة فِي التَّعليم، فالأطفالُ يتأثَّرونَ بالتَّقليدِ والمـُحاكاةِ والمثُل العُليَا الَّتي يرونَها". وإذا تبدَّت منهُ علامَات التّمييز، عُلِّمَ ما يحتاجُهُ من حدُودِ الشَّرع، فإذا أدركَ البلُوغ، كانَ واقفًا على مَا عُهِد إليه مِن مُفتَرضات.