إن ما نسجه التاريخ من وشائج التقارب والمودة ونبل التعامل والتلاحم والسؤدد بين شبعا وعرقوبها من جهة، وبين حاصبيا وقراها من الجهة المقابلة، كان وسيبقى ثابتاً ومتماسكاً إلى الأبد.
شبعا، هذه البلدة الصامدة الصابرة العالية جغرافيا واخلاقيا، والمستعلية انسانيا وحضاريا عن كل حقد او ضغينة، وهي كالنهر الهادر تجرف ما لا يليق ولا تختزن في خاطرها سوى العسل الرحيق...
شبعا كانت ولم تزل كجبلها، جبل الشيخ، ملجأً رحباً وأميناً لكل مضطهد أو مستضعف أو حتى منهزم وعبر التاريخ. فمنذ عهد ريكاردوس قلب الأسد والمنتصر صلاح الدين، وبعض عائلاتها لا تنكر أصلها الصليبي العريق "كآل مركيز".
شبعا، كانت ولم تزل كجبلها، جبل الشيخ، موئلاً للتقارب والتحابب وتأكيداً لهذا أن قاطنيها، وفي العصور القريبة، كانوا من شتى العائلات الروحية "السنية والدرزية والأرثوذكسية"، والتاريخ المدوّن يقرّ كيف تطاول عليها الجنرال الفرنسي "سيّف" قائد جيش ابرهيم باشا المصري فقام بنهب إحدى خلواتها التوحيدية. وحتى كبير مشرعي المذهب التوحيدي المعروف بالشيخ الفاضل قد سكنها وعاش بين أهلها. والدروز ما حاربوا يوماً الغازي والمستعمر، وعبر التاريخ، إلاّ كانت شبعا سنداً لظهرهم وحصناً حصيناً لعائلاتهم.
ولنبدأ من حرب ابرهيم باشا عام 1873م، بينه وبين دروز وادي التيم عندما هبّوا لرفع الضيم عن أخوة لهم في الجبل الرّيان (جبل حوران) لما لاقوه من تعسّف وظلم وجور من جنود ذاك القائد المتغطرس، فكانت معارك بكّا وجنعم والبيرة، وأخيراً التجأوا إلى أخوتهم في شبعا، وكيف أن مختارها آنذاك السيد ابرهيم الخطيب مع مواطنه الأرثوذكسي الشريف شاهين هدلا وسواهم في وجه أحد ضباط الجيش المصري الذي حاول أن يهين كرامة الأقلية من دروز شبعا والمستجيرين طالباً نساءهم كسبايا حرب، فما كان من المذكورين، إلاّ أن هبّوا كالأسود رافعين الصوت قائلين: "يهون علينا أن نسلّم نساءنا وبناتنا من أن نسلم نساء من هم للعرض والمروءة والأخلاق لوائها رافعين".
أيضاً عام 1925 يوم حمل الدروز السلاح ضد المستعمر الفرنسي لمعاملته السيئة واغتصاب أرضهم وإرادتهم، وكونهم أباة لا ينامون على ضيم، فكانت حرب الخمس والعشرين وكان امتدادها لوادي التيم، وكانت معارك حاصبيا وراشيا. ومهما تكن البطولات والتضحيات فليس من معادلة أمام جيوش جرارة وآلة حرب متطورة غدارة، مما حمل دروز وادي التيم ومقاتليهم على الاحتماء أولاً في شبعا وقرى العرقوب، وكان الترحيب والتأهيل وتقاسم المعاجن حتى حصل الخطر الذي لا يُطاق على المقيمين واللاجئين من قصف قراهم بالمدافع والطيران واستشهاد العديد مما أهاب بقائد الثوار الأمير زيد الأطرش إلى الانسحاب مع مقاتليه قائلاً لمضيفه في شبعا الحاج عبدالمجيد ماضي: "ثق يا حاج أن لك في سواد العين مسكناً وفي السويداء منزلا".
كما لا ننس مشاركة الشرفاء من أبناء تلك البلدة في امتشاق السلاح والانضواء تحت لواء القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش، ومنهم المجاهدون أحمد أفندي الخطيب وحسن أبو حسين هاشم والشيخ مصطفى حمدان وسواهم ممن فاتنا ذكر أسمائهم....
ثم كانت أحداث عام 1958، وكانت شبعا كعادتها سداً منيعاً أمام التجاوز أو العبث في أمن المنطقة واستقرارها، وعندما حاول بعض المسلحين دخول حاصبيا عنوة وقف ذاك الشهم الحاج أبو قاسم محمد مرشد ظاهر في باحتها، وقال: "لن يدخل أحد حاصبيا وحجر على حجر في شبعا، أنتم غرباء ونحن وأهل حاصبيا أنسباء وأقرباء".
وعلى سبيل وأد الفتن في مهدها وقبل استفحالها، اختطف بعض المهربين بين شبعا وما يقابلها في المقلب الآخر ثلاثة رجال من بلدة حضر السورية وقصدهم إخفا جريمتهم التي ارتكبوها في حق البعض وإلصاقها بالأبرياء، مما حمل الحاج أبو علي اسماعيل، ذاك الشريف الأمين، على إعلام مشايخ حاصبيا بهذا الموضوع، وعند قدومهم إلى شبعا أبى إلا أن يصطحبوا معهم الأبرياء المسالمين.
هذا إلى التآزر والتقارب في شتى المناسبات خصوصاً في الأفراح والأتراح، ومثال على ذلك أنه عندما أقدم العدو الإسرائيلي على طرد بعض وجهاء شبعا من بلدتهم أثناء الاحتلال الى منطقتنا، رداً على ممانعتهم في التعاون وانخراط أبنائهم في ما يُسمى "الجيش الجنوبي"، ما كان من أبناء حاصبيا ومنطقتها إلاّ أن أعلنوا الإضراب العام والمستمر وساروا في تظاهرات احتجاجاً، حتى تراجع العدو عن قراره وأعاد المبعدين إلى منازلهم.
هذا غيض من فيض من التلاحم والتآزر والمودة بين شبعا وحاصبيا وشتى القرى. وليتعلم الجميع أن من يريد أن يصطاد في الماء العكر، نقول له أن ما يجمعنا ويشد أواصر المودة بيننا أكبر بكثير مما يفرقنا، والدليل على ذلك الاستقبال الحار الذي لقيـه معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط في شبعا لم يماثله أي استقبال في اية قرية من قرى قضاء حاصبيا.
كاتب ومؤرخ