المجلس المذهبي | مجلة الضحي
السبت ٠٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥ - 18 جمادي الأول 1447
سماحة شيخ العقل في الذكرى الستين للوثيقة الڤاتيكانية:‏‎ ‎‏"ننادي بالشراكة الروحية الوطنية ونُصرُّ عليها مع البطريركية ‏المارونية الموقَّرة كمظلّةٍ واقية للبنان".‏

2025-11-08

شدد سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى على "تعزيز السلام والحرية والعدالة الاجتماعية، كنقطة انطلاق هامّة للحوار وتعزيزِ التفاهم وبناءِ الجسور بين المجتمعات الدينية المختلفة"، داعيا إلى "توسيعُ المساحات المشتركة وبلورتُها للتمكن من الانطلاقِ منها إلى الأمام".
 
كلام سماحة شيخ العقل جاء خلال مشاركته في الذكرى ال 60 سنة لإصدار وثيقة  NOSTRA AETATE" في احتفال اقيم في بكركي، بدعوة من اللجنة الأسقفية المنبثقة من مجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وحضوره، ومشاركة مرجعيات روحية وشخصيات روحية وحوارية عدة.
 
والقى سماحة شيخ العقل في المناسبة كلمة، قائلا:
 
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحبَ الغبطة نيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، أصحابَ الغبطة والسماحة والسيادة، أصحابَ المقامات الكريمة، أربابَ الحوار والكلمة الطيبة، أيها الأكارم،
"لا يوجد أحدٌ غريب بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية"، قالها قداسةُ البابا بولس السادس بُعيد انتهاء أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، مضيفاً: "هذه هي تحيتنا: فلتُشعلْ شرارةً جديدة للمحبة الإلهية في قلوبنا". وممَّا أُنزل في القرآن الكريم قولُه تعالى:
"مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
 
اضاف: "إنها دعوات متقابلة للاعتراف والتلاقي وأنسنة الخطاب الديني، ولعلَّ ما صدر عن المجمع من دساتير ومراسم وقرارات وتصريحات تُعدُّ من أهمّ ما قالت به الكنيسة الكاثوليكية، لكنَّ أهمَّها بالنسبة للبشرية كان التعبير الصريح عن انفتاح الكنيسة على العالم دون عِقدٍ نمطية. ما يعنينا في موضوع التقارب والعلاقة هو تلك التصريحاتُ الداعية إلى الحوار والتعاون، وهو ما عبّر عنه البابا بولس السادس قائلاً: إن الكنيسة اليوم تُؤثْر أسلوبَ المحبة والدعوة إلى الحوار"، مشيراً إلى "أن الفصل الثالث الذي خُصِّص للإسلام، يوضح ما هو مشترك بينه وبين المسيحية..."، وأن المجمع الكاثوليكي يحثُّ على نسيان حقبات الماضي وعلى تنمية التقدير المتبادَل الذي من شأنه تيسيرَ عَقد الالتزامات في سبيل تحقيق الخير لجميع بنى البشر...".
لقد طرح المجمعُ موضوعَ العلاقة بالإسلام والأديان بعباراتٍ منتقاةٍ بدقّة، ناظراً بعين الاعتبار إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد... ويؤدُّون العبادة لله، لا سيما بالصلاة والزكاة والصوم، ولكنّه ترك لعقول المؤمنين أن تتصرَّف بوحيٍ ممّا أقرَّه، فأنشأ لجنةً للحوار بين الأديان وللتعاون مع أتباع هذه الديانات بفطنة ومحبة، شاجباً كلَّ تفرقة او جَورٍ يلحق بالبشر بسبب عرقهم أو لونهم وبسبب وضعهم أو ديانتهم، وداعياً الجميعَ إلى تناسي الماضي والانصراف الى التفاهم المتبادَل، وإلى أن يصونوا ويعزّزوا معاً العدالةَ الاجتماعية والخيارات الأخلاقية، أي أنه فتح الطريقَ واسعاً لحوار الحياة. أمَّا المسلمون فقد رأَوا في الوثيقة تحولاً تاريخياً، بما تضمّنته من إشارات إيجابية إلى المسلمين، تبدأ بالاعتراف باعتقادهم بالله الواحد الأحد وبالقيم الأخلاقية والروحية المشتركة بين الإسلام والمسيحية، وتنتهي بالدعوة الصريحة في الوثيقة إلى نسيان الخلافات التاريخية والعمل المشترك بين المسيحيين والمسلمين من أجل تعزيز السلام والحرية والعدالة الاجتماعية، مما يُشكّلُ نقطةَ انطلاق هامّة للحوار وتعزيزِ التفاهم وبناءِ الجسور بين المجتمعات الدينية المختلفة. 
إذا كان هناك من ملاحظات، اعتبرها بعضُ المسلمين تحفظات، إلا أن الأهمّ من كل ذلك أن الوثيقة شكّلت خطوةً جريئةً نحو التفاهم المتبادل، وسبيلاً للوصول إلى الأخوّةِ الإنسانية وعيشِها بمحبةٍ ورحمة؛ إذ إنَ المحبة هي رسالة المسيحية: "أحِبّوا بعضكم بعضاً"، والرحمة هي رسالة الإسلام: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين".
 
تابع: "فما الذي يُعيقُ؟ وما الذي يمنعُ من التلاقي؟ طالما أن هدفَ الحوار ليس تحويلَ الآخر عن دينه ومعتقده ودعوتَه إلى مغادرة موقعه الطبيعي، بل توسيعُ المساحات المشتركة وبلورتُها للتمكن من الانطلاقِ منها إلى الأمام. وهذا ما اتّفقنا عليه في مساعينا الحوارية وإعلاناتِنا ومواثيقِنا الصادرة منذ ذلك الحين، والتي تؤكّد أن الحوار الديني لا يمكن أن يكون سبيلاً للتبشير أو التبليغ أو الاجتذاب إلى الدين الآخر، بقدر ما هو شهادةٌ للدين وتعريفٌ به وتقريبٌ لوجهات النظر وتوضيحٌ للمفاهيم ودعوةٌ إلى العيش معاً بسلام. الحوار يتطلب أولاً حواراً مع الذات من أجل قبول الآخر والانتصار على الأنا القاتلة التي تنزع إلى ادّعاء احتكار الحقيقة، ربما اعتزازاً من هذا الإنسان أو ذاك بدينه ومعتقده وقوّته، وربما جهلاً بما تستبطنُه مذاهبُ الآخرين من حكمة وحقيقة، أو ربّما انغلاقاً ومحدوديةً في فهم الآيات والنصوص والتوجّهات؛ فالحوارُ مع الذات هو بدايةُ الطريق الى الحوار والتفاعل مع الآخر، أي إلى مقاومة فكرة الرفض الموروثة وفكرة التكفير والاستبعاد، كما فكرة الغرضية والحزبية الضيّقة المنغلقة عند الكثيرين".
 
واستطرد: "في "الإرشاد الرسولي... رجاءٌ جديد للبنان" أعلن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني "أنّه لا بدَّ من تكثيف التعاون بين المسيحيين والمسلمين في كل المجالات الممكنة، بروح التجرّد..."، وهو ما أُعيد التأكيدُ عليه في الإرشاد الرسولي لمسيحيي الشرق الذي أعلنه البابا بنديكتوس السادس عشر أثناء زيارته لبنان عام 2012م.
يلتقي هذا التوجُّهُ مع التوجُّه القرآني الداعي إلى الحوار، بقوله تعالى: ﴿... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...﴾، وهذا ما عبّرت عنه وثيقةُ السينودس من أجل لبنان بالقول: "إن مسيحيي الشرق الأوسط ومسلميه مدعوّون إلى أن يتعاونوا ويبنوا معاً مستقبلَ عيشٍ مشترك يهدف إلى تطوير شعوبهم إنسانياً وأخلاقياً"، ولقد قدّمنا بالأمس في دار طائفة الموحدين الدروز نموذجاً متقدِّماً لمثل هذا التعاون بين أبناء الجبل، بما يعزّز المصالحة التاريخية التي أرساها المغفور له غبطة البطريرك صفير والزعيم الوطني وليد بك جنبلاط، وذلك في إطار الشراكة الروحية الوطنية التي ننادي بها ونُصرُّ عليها مع البطريركية المارونية الموقَّرة كمظلّةٍ واقية للبنان؛ نموذجاً في مجال التنمية الاقتصادية، وذلك من خلال توقيع اتفاقية تعاونٍ للتنمية الاقتصادية مع الرهبانية اللبنانية المارونية، على أراضي الأوقاف الدرزية والمسيحية، على أمل تعزيز الثبات في الأرض والتعلّق بالشراكة والعيش معاً".  
 
وختم سماحته: "إنّ رحابةَ أديانِنا وتجاربَنا المتعددة وواقعَنا اللبناني، كلُّ ذلك يوجبُ التأكيدَ أن لبنانَ رسالةٌ قبل أن يكونَ مساحةً جغرافيةً محدودة، وأن العيشَ الواحدَ الذي هو سمةُ اللبنانيين وميثاقُهم الأساسي، وحاجتُهم المرافقة للتاريخ منذ القدم، إنّما يَنبُعُ من واقع الحياة الوطنية المليئة بقصص الرحمة والمحبة والأُخوّة التي تؤكد أنّ ثقافة التنوّع أقوى وأشملُ من حالة التناقض والاختلاف، وأنّ مبادراتِ التسوية غنيةٌ وضروريةٌ وشرطيةٌ لقيام الوطن، وأنّ الحوارَ هو خبزُ لبنانَ الروحي، به يحيا وعليه يعيش، إذ "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". هذا ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا، وهذا ما نحن عليه سائرون، مردّدين ما قلناه في لقاء التضامن الروحي في عبيه منذ سنوات:
ونحن  نحيا  على  إيقاعِ  مَن  سبقوا
للسلمِ    نَجنَحُ،   لا   للحربِ   ننقادُ
نحيا  معاً  في خضمِّ العيشِ، تجمعُنا
أرضٌ   وحُبٌّ     وآلامٌ       وأمجادُ…
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه".