المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الاثنين ٠٢ كانون الأول ٢٠٢٤ - 30 جمادي الأول 1446
تاريخ المقامات الدينية لطائفة الموحدين الدروز الاجتماعي والديني وإبراز اهميتها الى جانب المواقع الأخرى.
لمحة في تاريخ المقامات الدينيَّة لطائفة الموحِّدين الدروز
المعنى الأصل:
جاء في الذِّكر الحكيم ﴿وَإذ جعلنا البيتَ مثابةً للنَّاس وأمنًا واتَّخِذوا من مَقام إبراهيم مُصلَّى وعَهِدنا إلى ابراهيمَ وإسماعيلَ أن طهِّرا بيتي للطّائفين والعاكِفين والرُّكَّع السُّجُود﴾ (البقرة: 125)، وسواء أكان المقصودُ بالمقام موضعَ الحجر الذي فيه أثرُ قَدمِه، أو البيتَ كُلَّه كما ذهبَ بعضُ المفسِّرين، فإنَّ المعنى يستقرُّ دلالةً على تعيـين مكان مبارَك ليكونَ مرجعًا للنّاس، ومجمعًا لهم، يثوبون إليه ملبِّيِن الدَّعوة، قاصدِين وزائرين، فيثابون بما يتقرَّبون به إلى الله تعالى من أعمال الطَّاعة والتبرُّك والبرّ. وفي هذا السِّياق المذكور نقفُ على معنى المقام الدّينيِّ بإطلاق. والدَّليلُ الأكبر على تعلُّق مفهوم "المقام" بالقيَمِ الدينيَّة السَّنيَّة ودلالاتها الرُّوحيَّة، هو أنَّ الكثيرَ منها لا يضمُّ رُفاتَ "العين" الَّذي توفَّاهُ اللهُ إلى رحـمتِه، وإنـَّما تمَّ إنشاءُ الصَّرح في حالاتٍ كثيرة لوجودِ أثرٍ، أو حدوث مناسبةٍ مشهودةٍ في التَّاريخ، وما شابَه ذلك، فكان "المقام" تخليدًا للمعنى.

فروع المعنى:
عرفت الحضارةُ الإسلاميَّةُ في وجهها الرُّوحيّ، لا سيّما في القرون الأربعة الأولى للهجرة، آفاقًا رحبةً لما يُمكن تسميتُه "الفضاءُ الرُّوحيّ للنَّصّ". وقد أدَّى ارتباطُ العلمِ الدينيّ بالعمل والسلوك والتحقق الوجداني الإنساني – بمعنى التَّعمُّقِ في مقتضيات الطَّاعة دون الاكتفاء بالواجباتِ المفروضة – إلى بروز منازل العابدين بالنَّظر إلى صدقِ نواياهم، وثباتِ مسالكهم، ودوام ارتقائهم في أبواب المعرفةِ والتَّحقُّق، وانطباقِ أقوالهم بالأفعال. هؤلاء همُ "الثِّــقاتُ"، أي الموثوقُ بهِم في سَكَناتِهم وحركاتِهم، في كلامِهِم وخواطرِهم، في طُرُقِهم الظاهرة والباطنة والتي كثيرٌ ما يتبدَّى منها للعيانِ، والأكثرُ ما يُستبطَنُ لأصحابِ البصيرةِ والنِّـــيَّة الطيِّبة. وإذا كان الواجبُ عندَ أهل الدِّينِ التّحلِّي بالأدبِ المتأتِّي من "رياضةِ النّفوسِ، وتأديبِ الجوارحِ، وطهارةِ الأسرارِ، وتجريدِ الطّاعاتِ، والمسارعةِ إلى الخَيراتِ"، فإنَّ لدى "الثِّقاتِ" ما هو أبعدُ في التَّحقُّقِ مـمَّا سبَق من "طهارةِ القلوبِ، ومراعاةِ الأسرار، والوفاءِ بالعهود، وحِفظِ الوقت، وقلَّةِ الالتفاتِ إلى العوارض والطّوارق، واستواءِ السِّرِّ مع الإعلان، وحُسنِ الأدب في مواقف الطّلبِ ومقاماتِ القُرب". لقد تبوَّأ هؤلاء، بما كان لهم من قوَّة الرّوح وإخلاص السَّريرة ومُحكَمِ التّسديد، منزلةً ساميةً تنأى، بلطافتها الرّوحانيّة، عمّا يشوبُ الحالَ الاجتماعيَّ لغالب النَّاس من السَّعي الحياتيِّ المعيشيّ الَّذي ينأى بالكثيرين عن سلوك سبيل الارتقاء الرُّوحيّ الآنف الذِّكر. ومن طبائع الأمور، أن يتعلَّقَ القلبُ المغمور بنور الإيمان بمَنْ أوتيَ الخير من مثل هؤلاء القوم لجهة كونهم، بتوفيق الله وفضله، المثالَ العيان على رسوخ مفاهيم القيَم العُليا والمثُل الأخلاقيَّة الراقية، وجمال الفضيلة وعلوِّه فوقَ كلِّ جمال. وهُم بهذا، القدوةُ الصالحةُ للمجتمع، خصوصًا عند سطوةِ جاهِ المال والسّلطة على أفئدة النّاس وخواطرهم.
حدثّ هذا في الزَّمان القديم مع الأنبياء والأولياء وعبَّاد الله المخلصين الَّذين ما خلت الأرضُ من حضورهم وشهادتهم الزكيَّة. ويحدثُ هذا مع الطبقات الأدنى من الأفاضل الكبار المتَّبعين السِّيرةَ الصَّالحةَ والنَّهجَ المستقيمَ في ضوء قواعد الشَّرع الحنيف، وتعاليم الذِّكر الشَّريف، بعيدًا عن شوائب الرَّأي والقياس، واتـِّباعًا لسُنَن الرَّسُول المؤيَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.

"المقامات" عند الموحِّدين:
تُبنى "المقاماتُ" إذن لغايات روحيَّة في المقصد الأسمى، ولغايات اجتماعيَّة معقودة حولَها، ومرتبطةٍ بها، تعبيرًا عن حاجةِ المجتمع إلى الارتباط بالقيَم والفضائل والأخلاق الرَّفيعة التي بها تتوطَّدُ أُسُسُه الرّاسخة جيلاً بعد جيل.
ويُسمَّى "المقامُ" أيضًا "مزارًا"، من حيثُ أنَّ النّاسَ تقصدُه وتزوره تبرُّكًا وطلبًا للدُّعاء والتَّضرُّع والصَّلاة تعبيرًا عن تمسُّكِها بأهداب الفضائل الأثيلة، وارتباطها الرُّوحيّ برموز الاستقامة والصَّلاح، وتوسُّلا في هذه الفسحة المباركةِ إلى وجه الله الكريم استغفارًا وتوبةً وعودةً إلى استلهام عفوه ومنَّته عليهم بالرَّحمة والتَّوفيق، كما يقصدُه المؤمنون لإحياء سهرة ذكرٍ وتلاوةٍ من آيات الله البيّنات.
ولكلِّ "مقام" تاريخُه وقصَّتُه المرتبطة إمَّا بقَصصِ بعض النبيّين، وإمَّا بحياةِ أحد الأعيان الأفاضل الثِّقات، وإمَّا باحتواء تُرْبتِه رفاتَ أحدِ الصَّالحين المشهودِ لهُم بالثَّبات على قواعد الأمر والنَّهي والفضيلة في حياته.
ومن المقامات القديمةِ العامّة في لبنان "على سبيل المثال لا الحصر"، مقامُ "النبي أيّوب"(ع) فوق حُضنِ جبلٍ عال مشرف على بلدة نيحا/الشوف يُذكّرُنا بفضيلة الصبر ونعمة الرضى والتسليم. ومقام "الستّ شعوانة"(ر) في البقاع الغربي، التي تذكرنا بعُبّادِ المغاور والكهوف الذين تركوا مباهجَ الدنيا وفِتْنَتِها وعزموا على رحلة الإيمان والتوحيد.
ومن المقامات التابعة للموحِّدين في لبنان مقامُ "الأمير السَّيِّد جمال الدِّين عبد الله التنوخي" في بلدة عبيه، وهو العالمُ العامل، والمصلحُ الاجتماعيُّ الكبير، والشَّخصيَّةُ التي ارتقت إلى تراثٍ وطنيّ حيث عَدَّهُ بعضُ المؤرِّخين علامةً مشرقةً في فترة عهودٍ مظلمةٍ في تاريخ لبنان. ويحظى هذا المقامُ بموقع أثيل في قلوب الموحِّدين، ويُعتبَرُ من الأبنية التراثيَّة الجميلة.
وتضمُّ بلدةُ عين عطا في وادي التّيم مقامَ الشيخ الفاضل(ر)، وهو الشَّخصيةُ الدينيَّةُ التي تعتبَرُ من حيث منزلتِها الرّوحية تاليةً لمنزلةِ الأمير السيِّد عبرَ القرون الخمسة الأخيرة. ويُعتبَر مسلكُ الشَّيخ الفاضل نموذجًا يُقتدى في التَّواضُع والزُّهد والعبادة والعِلم والمعرفة، مع العلم أن الشيخَ الفاضل تنقّل خلال حياته الى أماكن أخرى كـ"كوكبا" و"شويا".
تُعتبَر المقاماتُ المذكورة من المزارات الأقدمِ لدى الموحِّدين في لبنان، كما تعتبَر نوعًا من حافظةٍ في الذاكرة الشعبيَّة عمومًا، والفرديَّة خصوصًا، لأحوال أهل الفضل والورع والدِّين. وهذا ما يحرِّكُ في نفوس النَّاس المبادرةَ إلى أعمال الخير في خاصَّة نفوسهم من جهة، وفي مجالهم الاجتماعي من جهةٍ أخرى، عبر التأثُّر الرُّوحيّ بمثالاتِ الفضيلة، وبالتالي، استشعارَ حاجةِ الرُّوح إلى معرفة الله سبحانه وتعالى معرفةً حقَّة، واعتبارَ هؤلاء الأفاضل وسِيرَهُم ومآثرَهُم وسيلةً إلى التنبُّه لحقائق الدِّين والإيمان العظيمة. كذلك، عبرَ تقديم الصَّدقاتِ والحسنات، وإحياءِ روحِ المبادرة إلى البذلِ والعطاء وأعمال البرِّ في المجتمع. وفي الحقيقة، فإنـَّه في هذا العصر المغمور بنوازع المَيْل إلى المادَّة والأنانية، تبدو هذه الأماكن، الأنيسة بمعانيها ورموزها، واحاتٍ خضراء يانعة لكلِّ معنى إنسانيّ راق.

ختاماً ، ثَمَّةٌ في التَّعليم التوحيديّ مفهومٌ راسخٌ مفادُه أنَّ نورَ الهدايةِ لا يبرحُ العالَمَ طرفةَ عين، وأنَّه لولا هذا المدَدُ المتواصلُ لتلاشى الخلقُ واضمَحَلّ، ولَتعطَّلتِ الحكمةُ الضابطة الوجود وحاشا الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
كذلك النعمةُ الروحية لا يصلُ الإنسان إليها إلا بالعروج في مراقي الكمالِ، أفاضها الله على عباده بالتدرج الرسالي والتاريخي من طَوْرٍ إلى طور، والشرائعُ المنزلةُ حلقاتُ نورانية متّصلة في سلسلة الوحي المباركة إذا انفكت فرط عقد السلسلة المنتظمة.

وَقالَ عزَّ مِن قائل )إنَّا أوحَينا إليكَ كمَا أوحَينا إلى نُوحٍ والنَّبِيِّينَ مِن بعدِه وأوحَينَا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحَقَ ويعقوبَ والأسباطِ وعِيسَى وأيُّوبَ ويُونُسَ وهارُونَ وسُليْمانَ وآتَينَا داوودَ زَبُورا(.
وإننا في لبنانَ، هذا المزيجُ الفريد أذهلَ العالم وقدم تجربةً قد لا تتكرر عبر تداخلِ المئذنة مع قُبة الكنيسة. وقدرةِ الفرد على اختيار عاداتِ أعيادٍ لعدة دياناتٍ في بقعة واحدة. إنها النعمة التي يجب أن نُحافظ عليها ونشكرَ لدوامها، ليبقى الله في قلبنا، والوطنُ في ضميرنا، والإنسانُ في معاملتنا، وصلاتُنا وصلاتُكم، آملين الهداية لمن يضلُّ الطريق.

كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروزالشيخ نعيم حسن
أثناء المؤتمر الوطني في المركز البطريركي العالمي لحوار الحضارات "لقـاء"

عنوان المؤتمر:
"المواقع الدينية والأثرية والتاريخية بين مسؤولية الدولة وواجب الأوقاف".