2023-07-25
بسم الله الرحمن الرحيم الرَّحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، والصّلاةُ والسّلام على سيِّدِ المرسَلين، وَخاتَمِ النبيِّين جَدِّ الحسن والحسين سِبطَيْه ورَيْحانَتَيْه. وعلى آله وصحبِه أجمعين، إلى يوم الدِّين.
لا يسعني اولا الا ان انقل إليكم تحيات صاحب السماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سماحة الشيخ الدكتور سامي ابي المنى لكم عموما ولسماحة السيد علي فضل الله خصوصا الذي كلفني فشرفني ان أقف على منبركم لكي نحي هذه الليلة من ليالي عاشوراء .
الحديثُ الصَّادقُ في الحُسين u مُحالٌ دون الدّخولِ في حَرَمِ المعنَى الَّذي كان لا بُدَّ من وجودِ الرِّسالاتِ السَّماويَّة لحِفظِه وصَونِه وإيداعِه ليكُونَ أمانةًفي قلُوب المؤمنين ﴿الَّذين آمنُوا بالله ورسُولِه ثمَّ لم يرْتابُوا وجاهدُوا بأموالِهِم وأنفُسِهِم فِي سبيلِ الله أولئكَ همُ الصَّادقُون﴾ (الحُجُرات 15). والمعنَى بمَاهيَّتِه وأنوَارِ دلالاتِه ولطائف إشاراتِه مرايا لِما هو الحقّ، ولِما هو العدْلُ، ولِما هوَ قَصْدُ الرَّحيمِ الحكيمِ من وجودِ عِبادِه.
حين بدَا وجهُ الوقتِ ظالماً، وانكشفتْ دُنياهُ عن جحْد حقّ الأمانةِ مِمَّن اتَّخذ الدّنيا وجاهَها قبلةً له، « وتدلَّهت قلوبُهُم في طَلب سَقَط مَتاعِها انغماساً في علائقِها ومُوبِقاتها ... وصارَ الدِّينُ عندهُم "لَعْقاً على ألسنتِهم" كما قال "سيِّدُ شباب أهل الجنَّة"، لا يعرفون حدّاً لِحَدّ، ولا يأتمرون بمعروف، ولا ينتهُون عن مُنكَر. وكان قدَرُ الحسين عليه السَّلام أن يشهدَ للحقّ حين تيقَّن أنَّ الحقَّ لا يُعمَل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ولا بدَّ من المسير صوب ما من شأنِه إصلاح الأمَّة ولو كان دونه الموت، بل دونه الانصهار في نور الحياة حجَّةً على كافَّة الخَلْق إلى يوم الدِّين ».
« والحُسينُ، عليه السَّلام، سار حقيقةً، بقلبِه وما وعاهُ فيه من مكنونِ عِلمِ الكتاب. كان قياسُهُ قياسَ سرائر نيِّرة تحفظُ أمانةَ الدِّين، وقياسَ ضمائر وفيَّة تُخلِصُ الطَّاعةَ لله. كان وصيَّةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان آنذاك كلَّ عِترتِه بثِقْل ما انطوَت عليهِ تلكَ الوصيَّةُ من ذِمَّةِ الرُّوح التي هي مقاصد الكتابِ، وكِلاهُما، الكتابُ والعِترة، كما قال الرَّسُولُ r "لن يفترقا حتَّى يرِدا عليَّ الحوْض" ».
خرجَ الحُسيْنُ عليه السَّلام خروجَ صوتِ الحقِّ في الليل المُظلم، ويقينُهُ أنَّ دماءَ الأبرار الأحرار هو الضَّوءُ برسمِ ذِمَّةِ التَّاريخ وضميرِه ووجدانِه كي تَتردَّدَ أصداؤه في صدورِ المؤمنين ما بقيَ إمكانُ الحياة اللائقةِ بالصَّادِقين قائماً، وهو بالطَّبعِ قائمٌ إلى يوم الدِّين في خواطرِهم وسرائرِهِم ونجَاواهُم.
ثمَّة قصيدة عَصْماء لشاعر مَكِين من بني معروف هو الأمير أمين آل ناصر الدّين (المُتَوفَّى عام 1922) نظَمَها في الإمام عليّ عليه السَّلام بعنوان "العُقاب"، يسمعُ المرءُ منها أصداءَ بعضِ أبياتها تردِّد مآثرَ الحسين عليه السَّلام، ولا غَرْوَ في ذلك وسِرُّ الأمانةِ فيهِما واحدٌ بعينه:
قضَيتَ عُمرَكَ تُحيي الليلَ مُنتحِباً مِن خشيةِ الله واللاهُونَ قد نعِمُوا
تقولُ إنَّكِ يا دُنيا لزَائلةٌ غُرِّي سِوايَ فلا ينتَابَني ندَمُ
نظرْتُ فيكِ فلَمْ أسكُنْ إلى أمَلٍومَضَّني عندما جَرَّبتُكِ الألمُ
أمانةٌ شِرعةُ الإسلامِ في عنُقيفإنْ أخُنْ فجزآءِي النارُ تضطرمُ
وكان قد قال فيها:
سالَت نفوسٌ زكتْ إذ سالَ منكَ دمُوالكعبةُ انصدَعتْ واسترجَعَ الحَرَمُ
وبالحنيفِيَّة البيضآءِ قد نزَلَت دَهمآءُ تنزِلُ بالرَّاسي فينهدمُ
والمِنبَرُ انحطَمَت أعوادُه فهوَىو أوشكَت عُروةُ الإسلامِ تنفصِمُ
عَبرَ الحُسينُ عليه السلام في كربلاء من ضِيقِ المكانِ إلى فسحةِ الإنسانيَّةِ التي ليس لها حدُود إلّا وجه الحقّ حيثُ لا حدّ سوى التحقُّق الإنسانيّ بماهيَّة الفضائل الإنسانيَّة التي بها يستشعرُ المرءُ الصَّادقُ المُخلصُ عبادتَه حياةً خالدة. إنَّ المثالَ الذي افتداهُ بنفسِه باتَ قضيَّةً عابرة للأمكنة والهويَّات في سائر أرجاء الأرض إلى الموقف الإنسانيّ اللائق بالكرامة الإنسانيَّةِ في أرقى وأسمى وأكثر معانيها نُبلًا وقرباً إلى رياضِ الحقِّ والمعنى، ﴿وَ مَنْ أرادَ الآخِرةَ وَسعَى لها سَعْيَها وَهُوَ مُؤمنٌ فأُولئكَ كانَ سعْيُهُم مشكُورا﴾(الإسراء 19).
والآن، في وقتنا الرّاهن، نَعِي أنَّ الحُسينَ عليه السَّلام لا يَستدرُّ دموعَنا من رَهافةِ مشاعرنا عند استحضار مَشْهدِ كربلاء الأليم القاسي إلَّا ليحرِّرَنا من التباسات التّفكير. ثورةُ الحُسيْن عليه السَّلام هي في عيْن حركةِ النَّفس التي لا يُمكنُ أن تستكينَ في مَهْمَهِ الباطل لأنَّ الفِكرَ المُتوثِّبَ في امتثال الحقّ، ومُوجباتِ الأمانةِ المودوعة في الإنسانِ المخلُوق، ومقتضياتِ الواجب والالتزام الخلُقيّ التي بها يسمو المرءُ بإنسانيَّتِه إلى الكرامة التي أرادها اللهُ سبحانه وتعالى لهُ ﴿وَ لقَد كرَّمْنا بَني آدَمَ وحَملْناهُمْ في البرِّ والبحرِورزَقناهُم منَ الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُم علَى كثيرٍ مِمَّن خلقْنًا تفضِيلا﴾ (الإسراء 70).
ولا بُدَّ، من فوقِ هذا المنبر من منابر مؤسَّسةٍ واسعةِ الأرجاء، نشأت ونمَت وانتشرت خيراتُها برعايةِ عالِمٍ ومرجعٍ حُسيْنيّ كبير هو العلَّامة السَّيِّد محمد حسين فضل الله طيَّب الله ذكرَه، من الوقوف على بعض ثمرات منهجيَّة فكرِه المستفادَة من المدرسة الحُسينيَّة البهيَّة السَّناء ماضياً وحاضراً.
سأكتفي، في هذا السياق، ببعض الخطُوط العريضَة من ثوابت فكره ونهجه انسجاماً مع المناسبة.
- "التقوقُعُ داخل إطارٍ مغلَق هو إبعادٌ للإسلام عن حركةِ الحياة".
- "تحرير الوعي من الخضوعِ لعقليَّةِ الأنظمةِ المرتبطةِ بمركزيَّةٍ استعماريَّة".
- "الدخولُ في مشروع تكوين عقليَّة موضوعيَّة هادئة للمناقشة بهدوء واتّزان". و "تغليبُ الصِّفةِ العامَّةِ على الصِّفة الخاصَّة، أو تأكيد الصّفة الخاصّة بمقدار انسجامها مع أجواء الصّفة العامَّة." وهذه معادلة لو يُدرِكُ كنهَها المسؤولون في الشأن العام لكانوا حتماً وفَّروا على البلد الكثير من سنوات بل عقود من الممارسات العقيمة والمؤذية التي آلت إلى خراب الدّولة ومؤسّساتها.
- "العبور من أجواء الحماس والانفعال إلى أشكال البحثِ والتّحليل وفق المنهج القرآنيّ الّذي ركَّز على الموضوعيَّة والحكمةِ والطّريقةِ التي هي أحسن."
هذا غيْضٌ من فيْضِ فكرٍ كَنَهَ ما هو الإسلام، وما هي الرِّسالة في أبعادها الأرحب، وما هو الحُسيْنُ وما هوَ المدى الإنسانيّ الأرحب. والحمد لله بما بُورِكَ به من استمرار النَّهج ومن حضُورِ من يحمل أمانةَ الإرث بإخلاصٍ ودأبٍ محمود واستكانةٍ راسخة في الأعمال الخيِّرة في ظلِّ الآية الكريمة ﴿فأمَّا الزَّبدُ فَيذهَبُ جُفَاءً وَأمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرضِ كّذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الأمْثالَ﴾ صدقَ الله العظيم.