المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الجمعة ١٥ تشرين الثاني ٢٠٢٤ - 14 جمادي الأول 1446
كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن بمناسبة عيد الاضحى المبارك 2014

2014-10-03

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالَمين، والصّلاةُ والسّلامُ على  خاتم النبيين وسيّد المرسَلين، وآله وصحبه أجمعين، إلى يوم الدّين

إنَّ أشرفَ ما يتحلَّى به عبادُ الله في سَعيهِم نحو مرضاة الله هو التقوى. فهي الغايةَ التي بها يتقرَّبُ المؤمنُ من خالقِه في هذه الأيّام المبارَكة التي تُلبى فيها الدعوة إلى قصْد بيتِ الله العتيق، باستشعار الرِّضا بأمره، والتسليمَ لحُكمه، وعقدَ النيَّةِ على التزامِ العمل بالمعروفِ والانتهاءِ عن المنكَر. إنَّ تأدية شعائرَ هذه الدِعامةِ الأساسيَّةِ من الدينِ الحنيف، توجب ادراك المعاني الساميةَ، والمقاصدَ الرّوحيَّةَ التي كانت من أجلها رحلةُ الحَجِّ مشهدًا يلخِّصُ مغزى حياةِ المؤمن في هذه الدّنيا الفانية، وهو الطّاعةُ للحقّ، والسَّعيُ في طلبِه، والتقيُّد بموجِباته، والوقوفُ عند فرائضِه، ونَحرُ ما سواه من السيّئاتِ قربانًا إلى ربِّ العالَمين، وتضحيةً بمَتاعِ الغُرور الزمنيّ، واستغفارًا له ممّا شابَهُ من ضعفٍ وتقصير و ارتكابِ ذنوب. وهذا يتوافق مع قوله تعالى: ﴿بَلَى مَن أوْفى بعهدِه وَ اتَّقى فإنَّ اللهَ يُحِبُّ الـمُتَّقين﴾ (آل عمران 76)        
كم نحنُ بحاجةٍ اليوم إلى أن نقفَ إزاء مقاصد الأضحى المبارَك، مُستشعرين حضور الله عزَّ وجلَّ عبر آياته المُشِعَّات، جاعلين لها في أنفسِنا مرآةً نستبصرُ فيها حالَنا، ونتفحَّصُ كم نحن نُشبه ما يتراءى لنا فيها من أنوار كتابِ الهُدى والرَّحمة الّذي أراده الله سبحانه وتعالى لنا سبيلَ هدايةٍ ورُشد، كما قال عزَّ وجلّ ﴿وَأنْزَلْنا إليْكُم نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء 174). إنَّ المحنةَ الكبرى التي تُبتَلى بها الأمَّةُ هي في العودة إلى ظلامِ الجهل الّذي من شأنِه أن يُبدِّدَ قواها، و يُوهِنَ صفَّها، ويُضعِفَ قلبَها، فتتهاوى في لُجَج الفتَنِ والتباغُض والتنابُذ، ولا يُعوَّلُ آنذاك على كَثرتِها، وإنَّما على صحَّة إيمانِها وإخلاصِها في عهد الله الحقّ. قال رسولُ الله صلّى اللهُ عليه وسلَّم "بلْ أنتُم يومئِذٍ كثيرٌ، ولكنَّكُم غُثـاءٌ كَـغُثـاءِ السَّيْل، وَلَينزِعَنَّ اللهُ من صُدُور عدُوِّ كُم المهابةَ منكُم، ولَيَقذِفَنَّ في قلُوبِكُمُ الوَهَنَ"، ألا تُطابق صورةُ واقِعنا اليوم مشهدَ هذا الغُثاء، وهو ما يجيءُ فوقَ السَّيْلِ ممّا يحملُه من الزَّبدِ والفضُول الّذي لا رجاءَ منه؟ لكنَّ إيمانَنا راسِخٌ بأنَّ الإيمانَ الحقّ لا يعدِمُ رجاء، وبأنَّ ما يختزنُه وجدانُ الأمَّةِ من نعمةِ الهداية لا بُدَّ وأن ينهضَ بها من كبْوتِها، ويُعيدُ لها وجهَها المشرق المُهاب. أيّها الموحدون لا يجبُ أن يغربَ عن بالنا لحظة الوقوف بين يدي مَن لا تخفى عنه خافية، هو الّذي لا ينظر إلى صُوَرنا وأبشارنا و لكن ينظر إلى قلوبِنا، و القلبُ مسكنُ ما يهجسُ به الإنسانُ، فإن كان خيرًا ومحبَّةً وأُلفة وصدقًا وإيثارًا كان فيه ما يُرضي الله تعالى، وإن كان، لا قدَّر الله، تنافرًا وبغضاء ونزوعًا إلى الشهوات والجاه وأثَرة الأنا وحبّ النّفس كان فيه إذًا ما يغضب الله أعاذنا عزَّ و جلَّ من ذلك إنه هو البصير العليم. هذا الخير عليه أن يتجسّد أعمالا ومساعٍ و مبادراتٍ تنفعُ النّاسَ وتدعوها إلى وحدةِ الصَّفّ والاجتماع على الكلمة الطيِّبةِ، والاندفاع نحو تحقيق المصلحة العامَّة والخروج من الدوائر الضيِّقة التي تُعشِّشُ فيها المصالح الفئوية والكلام الصغير الظالم الّذي لا يتوخَّى الصّدق بقدر ما يتوخَّى التشويش وزرع بذور التفرقة. إنّنا نربأ بانفسنا عن الدخول في ما لا يرضاه الضمير، بل ندعو الجميع إلى الارتقاء إلى مستوى التحديات والمخاطر لنكون صفا كالبنيان المرصُوص في مواجهة كلّ تهديد لأمتنا ووطننا.  لقد عبَّرنا دومًا عن قناعتنا الرّاسخة بسلوك نهجِ الاعتدال وفي ذهننا القاعدة القرآنيّة العظيمة ﴿فَاستقِم كما أُمِرت﴾ (هود 112)، و لا يُمكنُنا أن نفهمَ الاستقامة بالمفهوم الدينيّ إلاَّ انطلاقًا من سجايا الرّحمة والهداية والرّفق والحِلم والتواضُع والشجاعة في مواجهة نوازع النّفس الأمّارة بالسُّوء، والالتزام الإنسانيّ بالأمر الإلهي الشّريف بالحثِّ على المعروفِ والزَّجر عن كلِّ مُنكَر، وأيّ مُنكَر أشدّ على النّاس من قتل النّفس البشريَّة ظلمًا وبهتانًا. لقد حددنا في لقاءاتنا الروحية وخاصة اللقاء الاخير الثّوابت والمنطلقات التي نرى أن بها ما يُصلِحُ حالَ البلد، ونكرِّرُ ونشدِّد على أهميَّة الوحدةِ الوطنيَّة التي نسأل الله تعالى على الدوام أن تكونَ المعوَّلَ الأساسيّ لخُطط الحفاظ على لبناننا العزيز، خصوصًا في ما يتعلَّقُ بسيادة الدولة، والتزامِ المبادئ الدستوريّة، وعدمِ الانجراف في سياسةِ المحاور دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح الوطنيَّة العليا، والتمسُّكِ بإرادة العيش المشترك، والتشبُّثِ بالمثالِ الإنسانيّ الرّفيع الّذي يُمثِّلُه المُناخُ الإيجابيّ في العلاقات الإسلاميَّة – المسيحيَّة من حيث هي نموذجٌ لبنانيّ إنسانيّ تجبُ مقاربتُه من وجهة نظر المحافظة على ما يمثّلهُ تاريخُ المنطقة من عُمقٍ حضاري عريق. أيها اللبنانيون        
ولنا أن نبدأ من وطننا العالِق في مأزق المراوحة في الترهُّل والتعطيل على استعادة الحياة الدستورية بسيرها الطبيعي تشريعياً وتنفيذياً وحتى ادارياً. إنَّ بلدًا يدَّعي الديموقراطيَّة وهو في حالةِ عجز مشهود عن انتخاب رئيس، وعن إجراء العمليَّة الأساسيَّة التي تعطي الحقَّ للشعب في اختيار ممّثليه، وانعكاس ذلك على أداء السلطة التنفيذيَّة، هو بلدٌ مهدَّد، خصوصًا ما يتهدَّدُ كيانَه من أخطار كبرى، وما يُحيطُ به من تهديداتٍ مروّعة يمكنُ أن تمسَّ قواعدَ امنه بشكلٍ شموليّ.        
إنّنا جميعًا نتغنَّى ببطولات جيشنا ولزومِ دعمِه، لكن لا بدَّ لنا من أن نعيَ الحقيقةَ الواقعيَّةَ وهي أنَّ ليس ثمَّةَ دعمٌ جِدّي للجيش الوطنيّ، واحتضانٌ له دون اية مواربة لتأدية مهامه الكبيرة، إلاّ باستقرار قواعدِ مؤسّسات الحُكم وانتظامِ عملِها بهدفِ تحصين السّاحة الداخليَّة، وبثّ رسالةِ ثقة إلى الدول الداعمَة، ومواكَبة ما يستجدُّ من اهتزازات أمنيّة بالطّريقةِ الوحيدةِ المنطقيَّة التي يجبُ أن تُتَّبَع، وإلا سوف يأتي الوقتُ الّذي نرى فيه كم كنّا في غفلةٍ عن تدبير أمُور وطنِنا كرجالٍ يستحقّونه.        
نعود الى المناسبة الكريمة فاذا كان من معاني هذا العيد المبارك التضحية في سبيل الخير، فاننا نوجه النداء الى القيمين على الحكومة لبذل التضحيات في سبيل حماية ابناء هذا الوطن، وفي مقدمتهم العسكريون الاسرى لدى المجموعات المسلحة فهؤلاء هم ابناء المؤسسة العسكرية لكنّهم يمثلون كل الوطن. في هذا العيد الفضيل نداؤنا الى السياسيين جميعهم لتقديم التضحية ببعض الحسابات من هنا وهناك، واعتماد المصلحة الوطنية العليا، وانتخاب رئيس للجمهورية فوراً دون المزيد من الابطاء. نداؤنا الى كل القيادات الروحية وما يمثّله التفاهم والتعاون في ما بينها والحمدلله بشحذ الهمة لتحويل بيانات القمم واللقاءات الى خطوات عملية ، تكرّس الوحدة الوطنية والعيش الواحد، وترتقي بالخطاب الديني الى المستوى الذي تمليه التطورات الخطيرة الحاصلة في المنطقة، واخطرها على الاطلاق تلك الارتكابات الحاصلة من قبل جماعات اقل ما يقال انها تنتحل صفة الدّين. إننا ندين ونحرّم كل اعمال القتل والخطف والتعدّي على الآخر، وندعم الجيش والقوى الامنية، وعلى اللبنانيين ان يتيقنوا ان الدولة ملاذهم الاوّل والاخير ولا بديل عنها لتأمين حماية كل المواطنين. نتوجّه لاخواننا وابنائنا الموحدين بالقول ان صفة التعايش ارتضيناها بنداً من دستور ادب الجماعة وخصوصيتها، والمواقف الوطنية التي يقوم بها في هذه الفترة العصيبة معالي الاستاذ وليد بك جنبلاط ستبقى في صفحات تاريخ الوطنية الوساع. ونحن على ثقة بانكم واعون مدركون لخطورة هذه المرحلة، متمسكون بعروبتكم، محافظون على انتمائكم الاسلامي، ولن تثنيكم عن ذلك اي مؤامرات او دسائس. أملنا ورجاؤنا من الباري تعالى في عيد الاضحى المبارك أن يلهمنا جميعاً لبنانيون وعرب ومسلمون لما فيه خير بلدنا واقطارنا العربية وامتنا الاسلامية، وأن يهبَنا نعمةَ العيد وشعوب أمَّتنا هانئة في رياض العدْل والحياة الكريمة، عسى أن تعود الينا فلسطين حرة مستقلة، وأن تنعم سائر البلدان العربية بالامن والديمقراطية، وان يتخطى اللبنانيون هذه المحنة الحاصلة. ونسأل الله أن يلهمَنا رضاه وتوفيقَه بتسديد خطانا في طاعتِه التي بها تكون ثمراتُ السّلام الحقيقيّ، ونبتهلُ بالدّعاء إليه راجين، مستغفرينه من كلِّ ذنب، طالبين شفاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، متضرِّعين أن يعلو سلامُه فوق كلّ ظلم، إنَّ ربّي غفور رحيم، منه السّلام، ومنه العدل، وإليه غاية كلّ حقّ.   
بيروت في : 9 ذي الحجة 1435 هـ.                   
الموافق : 3/10/2014م.