بســـــم الله الرحمن الرحيـم الحمدُ لله ربِّ العالمين، الحمدُ لله الذي ((فطرَ السمَواتِ والأرْضَ)) بفََضْلِهِ وَكَرَمِه، وَمَنَّ بفِطرتِهِ التي ((فَطَرَ النّاسَ عليهَا)) بِعَدْلِهِ وَحِلْمِه، ((جَاعِل ِالملائكةِ رُسُلاً)) وهُوَ الّذِي يَحْكُمُ بِالحَقّ ((لا مُعَقـِّبَ لِحُكْمِه)). والصلاةُ والسلامُ علَى رَسولهِ خاتم النبيّين وسيد المُرسلين وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعينْ ومَنْ تَبِعَهمْ بإحسانٍ إلى يوم الدين نُوَدِّعُ وإيّاكم أيام الشهر المُبَارَك، طالبين من الله عزَّ وجلّ أن يودِعَ في قلوبِنا بركَاتِهِ. فالصَّومُ رحمةٌ لأنَّ فيه بركةَ الطّاعةِ، وجهادَ النّفسِ، وإنابةَ الرُّوح إلى ما فيه نفعُها وصلاحُها وخلاصُها حين تستضيءُ بأنوار الهُدى. وهوَ فضلٌ لأنَّ فيه واجبُ الشُّكر والحمدِ والإقرارِ بنعمةٍ لا يُضاهيها من أمور الدُّنيا كلِّها أيُّ مَتاع. {قُل بفَضلِ اللهِ وبرحمَتِه فبِذَلك فَليَفرحُوا هوَ خيرٌ ممَّا يَجمَعُون} (يونس 58). والموحِّدُ الذي كابدَ الصَّومَ طاعةً، صفَت نيَّتُه، واستقامَت مسالكُه، وخضعت جوارحُه لِما يقتضيهِ قصدُ الدِّين من الواجب، حينئذٍ ينقى جسدُه، وتشفُّ روحُه، فيكون أهلاً للمثول في حضرةِ "الكتاب" الّذي شاءهُ اللهُ عزَّ وجلَّ {هدًى للمتَّقين} وحقّا تستـنيرُ به أفئدةُ المخلِصِين، وفرقانًا يُلهمُ العالَمين تمييزًا بين العدل والظّلم، وبين الخيرِ والباطِل. ويفرحُ المؤمنُ الموحِّدُ إذ يحقِّق الثمرات الطيِّبات. ولا يكون فرحُهُ في "أناه"، لأنَّ النّفسَ المتحقِّقةَ في الخير هي في الحقيقةِ روحٌ تضيءُ العالمَ إذ تشهد على جمال القيَم الإنسانيَّة مهما احْلَوْلكَ ظلامُ الليل واشتدَّت عتمتُه. ولا يكون فرحُهُ لغاياتٍ شخصيَّة، بل هو الخميرةُ الصالحةُ في زادِ الجماعةِ وخبزها، لأنَّه يبذل كلّ ما حباهُ اللهُ بهِ من نِعمة ليكون خادِمًا في مجتمعه، بل مضيئًا لكلِّ بارقـةِ أمل، إذ يُكون مثالًا للأخلاق، مترفِّعًا عن شوائبِ التـنافر والتملُّق، ناطـقًا بالصِّدق، منـزَّهًا عن مكامن الفساد، وناصحًا بكلِّ ما من شأنه أن يقيمَ الصَّلاحَ والنّزاهةَ والكفاءةَ في مجتمعه. وهل من قيامةٍ ظافرةٍ لمجتمع ولِحُكمٍ ولِسلطةٍ خارج معاني الإنسانيَّة وخارج موجب العمل من أجل أن يكون لكلِّ فردٍ حقوقَه البسيطـةَ في العيش بحرِّية وكرامة {إنْ لم تكن ثمرةُ الدِّين في الحقل الاجتماعيّ هي حصرًا قيامَ العدالة، ونُصرةَ الحقّ، وإقامةَ شهادةِ الأخلاق والرِّفعةِ والمِثال الصّالح، فماذا تكون} بهذه الرُّوحِ نستحقُّ فرحَ العِيد، فرحَ الإفطار وقد حملنا فوق أكتافِنا أعباءَ تهذيبِ النَّفس، وبذل الخَير، والانطلاق ببركة الله وتوفيقِه من أجلِ خدمةِ النّاس، ورفع الغُبن، ومشاركة المحتاجين، وأدآءِ الواجِب ذَودًا عن الحقّ والعدل وفق المستطاع. ولكن كيف يُطلّ العيد علينا هذا العام، فالبلاد غارقة في مجاهل الفوضى والتسيّب. وهو أمرٌ يبعث على منتهى القلق ويحفّز فينا الحذر الشديد، ويدفعنا إلى إعلاء الصوت وإطلاق نداءٍ إلى كافة المسؤولين الرسميين والسياسيين على اختلاف مواقعهم بأن يسارعوا قبل فوات الأوان لوقف التدهور الحاصل كي لا تضيع منّا فرصة إنقاذ البلاد ممّا يحاك لها من فصول الفتنة التي تطلّ في أكثر من مكان وعبر أكثر من محاولة، وإلى التنبُّه من أخطار مؤامرات العدوّ الصهيونيّ الّذي يراقبُ نزيفَ دمائنا، ومستنقع توتّراتنا، وإمكانات الفتنة التي لا شكّ يملك الكثير لإثارتها وإشعالها. أيُّهـا اللبنانيون، إَّننا نجتازُ العاصفة، وأحيانًا، يُهيَّأُ لنا أنّنا في بحر الظلمات، لكنّنا، بإيماننا الرّاسخ، وقناعاتنا المتشبّثة بالثوابت الوطنيَّة التي باتت واضحة كالشمس، وبمحبَّتنا التي طالما عبَّرنا عنها مع إخواننا في القيادات الرُّوحيَّة عبر بيانات تُعتبَرُ وثائق مضيئة في ما يعنيه لبنان من وطن ورسالة، وبدعمنا المستمرّ لقياداتٍ وطنيَّة لنا الثقة المشهودة بوطنيّتها وحرصها وسهرها ودأبها المتواصل من أجل العبور ببلدنا الحبيب إلى برِّ الأمان باستقراره الأمنيّ والسياسي والاجتماعي، إننا ومن الوعيِ العميق لمخاطر المرحلة، نتوجه الى القيادات الكبرى في هذا البلد لتعمل جاهدةً، بصبر ومثابرة وحِلم كبير من أجل استيعاب الهزّات، وتخطِّي العثرات، ومواجهة الملمّات بتدبير عقلانيّ، بكلِّ ما ذكرناه، كما نوجِّه الدعوة الدائمة إلى الارتقاء فوق خطاب التفرقة والتحريض. إننا نستنكر كافة أعمال الخطف والخطف المضاد، وكل ما يخالف حقوق الإنسان وكرامته.
لا غنى عن فرض هيبة الدولة وصون أمن المواطنين جميعاً دون استثناء.
لا غنى عن حوار جدّي حقيقي يعالج المسائل الخلافية السياسية.
لا غنى عن دعم مؤسسات الدولة ودور الحكومة التي يجب عليها القيام بكامل واجباتها على كل صعيد، في السياسة والأمن والاقتصاد وفي المعيشة والوضع الاجتماعي، كي لا تنـزلق البلاد إلى الأتون الخطير.
لا غنى عن دعم الجيش الوطني، الضامن لاستقرار الوطن وسلامة أبنائه.
لا غنى عن المؤسسات الأمنية، التي نمنحها ثقتنا، ونعول على دورها في مكافحة الجريمة إذا ما قُيِّض لها أن تقوم بعملها كاملاً دون أي تدخّل، وننوّه بما أنجزته قوى الأمن الداخلي على صعيد كشف مخطط تخريبي كاد يغرق البلاد في الفوضى، ويعيدنا الى مسلسل جديد من الاغتيالات.
لا غنى عن القضاء لكي تُحلّ العدالة مكان الانتقام، ولكي تسود روح الدولة والقانون. إننا نتوجه الى كافة المعنيين في الشأن اللبناني بوجوب البحث في قانون انتخابي عادل يضمن خصوصية هذا النسيج الوطني، فكيف الحديث عن النسبية وذلك قبل استكمال الطائف وإلغاء الطائفية السياسية، وإنشاء مجلس الشيوخ. فلبنان النابض بقلبه، والجبل قلب لبنان، فإياكم والمخاطرة في معادلة الجبل. وفي الشأن العربي، إننا نتألم لما يحصل في سوريا من قتل و عنف وسفك للدماء،ونحذر من الصراع الفئوي المقيت، ونسأله تعالى أن يطفئ النار في ربوعها، وندعو جميع ابناء الشعب السوري الكريم الى مسار الحكماء والعقلاء نحو حل سياسي يخرج سوريا من محنتها الى عصر جديد يكون لشعبها الأمن والكرامة والدرع الحصين، كما نسأله تعالى في هذه المناسبة المباركة أن يمنّ لشعب فلسطين الصمود والصبر أمام التخاذل الدولي والتشتت العربي من أجل عودة الأرض المغتصبة ، كما نرحب بدعوة القمة الإسلامية في مكة المكرّمة من أجل محاربة الفتن بين المذاهب وتعزيز الحوار الإسلامي الإسلامي. فلو وقفوا المسلمون عند تعاليم الكتاب المنُزلْ "لا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مؤمناً" (النساء94)، أو أنهم وقفوا عند الحديث الشريف:"أصحابي كالنجوم بأيِهّم اقتديتم اهتديتم"، لو عمل المسلمون جميعاً بهذا لتفاهموا وتعاونوا وجمعتهم رحابةُ الإسلام وأخوّة المسلمين ولكانوا قطعوا الطريق على الدساسّين والمتعصّبين، وأصبحوا بنعمتهِ اخواناً على سُرر متقابلين. على الصعيد الوطني نشدد على أهميّة الزيارة المرتقبة لقداسة البابا الى لبنان لتعزيز التلاقي والعيش المشترك. أبنائـي وإخـواني، على مشارف موعد انتخابات المجلس المذهبي الجديد نتوجه الى مجموعة الرأي الواعي من أبناء الطائفة، الى الشباب الـمُبَادِرَة إلى العضويَّةِ، ليكُن إقدامُها وفقا لِما تستطيعُ تقديمه من خدمات في هذا الحقل أو ذاك ببراءة للذمَّة، وحريَّة للضمير، والاستعداد للتفاني والخدمة والإخلاص، من أجل استكمال عملية النهوض وبناء المؤسسة الجامعة في مجتمعنا، إن للمجلس المذهبي لجانَ اختصاصات متعدِّدة، فلنُقْدِم استنادًا إلى مؤهّلاتنا. إنَّ أوَّل شروط نجاح أيِّ حركةٍ نهضويَّة هي اعتماد الصِّدق في هذا الخِيار. إنَّ فضلَ الله سبحانه وتعالى، يوجِبُ علينا أن نرتقي بنفوسِنا وعقولِنا وإراداتنا إلى المستوى اللائق بالمسؤوليَّة الملقاة علينا جميعًا. إنَّ هذا أمرٌ مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بذِمَمنا وعهودِنا وصدق سرائرنا. والى الذين يشككون غيبة ونميمة في الأوقاف وأموالها وغيرها نردد قوله تعالى: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" (ق18)، وإننا في مشيخة العقل نؤكد التزامنا وخدمتنا لكافة أبناء الطائفة بدون استثناء، ونردد بكل ثقة مع قول الأمير شكيب ارسلان: سيعلم قومي أنني لا أغُشّهم
ومهما استطال الليل فالصبح واصلهُ. في الختام نبتهلُ صباح هذا العيد السعيد بقلبٍ يريدُ الاستنارةَ من معانيه الجليلة، متشبّثين بطلب فضل الله ومعونته ورحمته أن يقطعَ دابرَ المفسِدين، وأن يردَّ بقدرته ولطفه عن ضعفاء الأرض كيدَ الظالمين. ربَّنا تقبَّل منّا إنَّكَ أنتَ السَّميعُ العَليم.
خطبة عيد الفطر 19/8/2012.