رأى سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى انه مهما برزت العوائقُ من داخلٍ الوطن أو من خارجه، فالروابطُ الروحية والوطنية بين أبنائه متينةٌ وعصيَّة على الانحلال، مشددا على البناءَ الوطنيَّ والإنساني والتمسكُ بالهُوية الروحية الخاصة التي لا تتعارضُ معَ الانفتاح والحوار والعيش الواحد ومع المصالح العليا للوطن، الذي لا يبنى بالتعصُّب والتكفير والتطرُّف.
كلام سماحة الشيخ ابي المنى جاء خلال كلمة له اثناء رعايته ونائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور طارق متري ندوة ثقافية وطنية في دار حاصبيا، وجولة قام بها على حاصبيا ومنطقتها التقى خلالها مشايخ اجلاّء واعياناً من الطائفة، وافتتح "مركز الثقافة التوحيدية في منطقة حاصبيا" في مقام نبي الله شعيب (ع) في خلوات الكفير، ورافقه في الجولة وفد من المشايخ يتقدمه رؤساء لجان واعضاء من المجلس المذهبي، ومديريتي المجلس ومشيخة العقل والمستشارين.
حاصبيا
برعاية سماحة شيخ العقل والدكتور متري وبالتعاون مع "مؤسسة الخليل الاجتماعية" أقيمت بعد ظهر السبت ندوة ثقافية وطنية بعنوان: "الشراكة الروحية الوطنية، مظلة الاصلاح والانقاذ"، بدعوة من اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، تحدث فيها سماحة الشيخ ابي المنى والدكتور متري ، وتضمنت مداخلات لكل من راعي ابرشية صور وصيدا وتوابعهما للروم الارثودكس المطران الياس الكفوري، مفتي حاصبيا ومرجعيون حسن دلّة، رئيس مجلس امناء مؤسسات المرجع السيد محمد حسين فضل الله السيد علي فضل الله ممثلاً الشيخ فؤاد خريس اضافة الى كلمتي ترحيب للوزير والنائب السابق انور الخليل ورئيس اتحاد بلديات الحاصباني الاستاذ لبيب الحمرا.
حضر الندوة حشد واسع من الشخصيات والفاعليات والهيئات الرسمية والروحية والسياسية والحزبية والاجتماعية، تقدمهم ممثلون عن رئيس مجلس النواب نبيه بري النائب قاسم هاشم، وعن البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الخوري بيار الراعي، النائب الياس جرادي، وعن النائب وائل ابو فاعور وكيل داخلية الحزب التقدمي الاشتراكي سامر الكاخي، وعن الوزير السابق مروان خير الدين السيد رواد الشوفي، وعن قائد الجيش العميد عبد الله حرب، وعن قائد الدرك العقيد فاروق سليقا وقائمقام حاصبيا رواد سلوم. اضافة الى ممثلين عن الاحزاب؛السوري القومي الاجتماعي ماجد الحمرا، والجماعة الاسلامية عضو المكتب السياسي عطوي عطوي، وتيار المستقبل عضو المكتب السياسي زياد ضاهر، وجهاز وكالة حاصبيا في الحزب الاشتراكي والمعتمديات ومدراء الفروع،وعدد من مشايخ البياضة الاجلاّء، ولفيف من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، والشيخ جهاد السعدي عن تجمع العلماء المسلمين ، ورئيس اتحاد بلديات العرقوب د. قاسم القادري، وهيئة ابناء العرقوب برئاسة د. محمد حمدان، وممثلون عن الصليب الاحمر اللبناني والدفاع المدني، الى جانب عدد كبير من مديري المدارس الرسمية والخاصة والهيئات التعليمية ورؤساء البلديات والمخاتير في المنطقة، وجمعيات وروابط ومنتديات حوارية وهيئات عدة وجمع من ابناء المدينة والمنطقة.
النشيد الوطني استهلالا، وقدّم الكلمات عضو اللجنة الثقافية الاستاذ نعمان الساحلي المتكلمين، ومشيرا الى دور وعمل اللجنة الثقافية في المجلس، ليلقي رئيس اتحاد بلديات الحاصباني الحمرا كلمة ترحيبية بسماحة شيخ العقل والحضور، محيياً اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، وقال: "نجتمع اليوم في ظرف بالغ الدقة وبلدنا يواجه ازمات قاسية وحولنا منطقة تغلي بالحروب والاضطرابات، فالحرب الاخيرة التي ما زالت نارها مشتعلة تذكرنا بحقيقة الخطر الداهم العدو الاسرائيلي يخطط وينفذ استراتيجيات تهدف الى تفتيت المنطقة، كي يتسيّد على حساب وحدة شعوبها وحقوقها لكن من هنا من دار حاصبيا نقولها بوضوح لن يفتت لبنان ولن يكسر شعبه، ما دمنا متمسكين بوحدتنا الوطنية".
اضاف: "لقد اثبتت التجارب ان لا مخرج إلا بالحوار، فالحوار هو السبيل الوحيد الى بناء وطن يواكب العصر، وطن يليق بأبنائه جميعاً والطوائف نعمة حين تكون غنى وتنوع لكنها نقمة أن تحولت الى انقسام وتقوقع ونحن نؤمن بالعيش الواحد تحت مظلة الوطن حيث جميع الاديان السماوية تلتقي على قيم واحدة المحبة العدل والرحمة فالدين لله والوطن للجميع".
وحيّا الحمرا "عهد رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون والجهود المبذولة من قبل رئيس الحكومة القاضي نواف سلام ومجلس الوزراء، فلبنان يستحق اكثر من أدارة أزمة يستحق مشروع انقاذ وبناء لبنان دفع أثماناً باهضة بسبب أرتهان القرار الوطني للخارج وحان الوقت ليعيش شعبنا بأمان وسلام وكرامة... نعم لوطن العدالة والكرامة ونعم للسلام العادل الذي نستحقه".
الخليل
ثم القى النائب السابق الخليل كلمة رحّب خلالها بسماحة الشيخ ابي المنى والدكتور متري والحضور، ونوّه بدور اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، وقال: " في زمن تعصف فيه التحديات بوطننا لبنان، وتتنازع الأهواء مساره، يظلّ السؤال الأكبر هو: أين تكمن القوة الحقيقية لهذا البلد الصغير بحجمه، الكبير برسالته؟ والجواب يسطع كالنور الذي لا يخبو: إن قوة لبنان الحقيقية تكمن في الشراكة الروحية الوطنية، تلك المظلة الجامعة التي تلمّ شتات النفوس، وتجمع المختلفين على كلمة سواء، وتحمي الوطن من الانزلاق إلى هاويات الانقسام والفرقة".
اضاف: "الشراكة الروحية ليست مجرد شعار يُرفع في المناسبات، بل هي منهج حياة يقوم على إدراك أن الوطن لا يُبنى بيدٍ واحدة، ولا يزدهر بصوتٍ منفرد، بل يحتاج إلى تآزر الأرواح قبل تلاقي الأجساد، وإلى وحدة النوايا قبل وحدة المؤسسات. هي عهدٌ إنساني قبل أن تكون عقداً اجتماعياً، وهي إيمان بأننا مختلفون في الانتماء واللون والطقوس، لكننا واحد في القلب والمصير، شركاء في الأرض، شركاء في الأمل، شركاء في الوطن. حين تترسّخ هذه الشراكة الروحية الوطنية، تتحوّل إلى مظلّة للإصلاح والإنقاذ، تُصلح القلوب قبل المؤسسات وتُنقذ الإنسان قبل الحجر وتفتح أمام لبنان طريق الخلاص من أزماته المتراكمة، لأنه حين يتشارك أبناؤه في الروح يسهل عليهم أن يتشاركوا في السياسة والاقتصاد والثقافة".
وتابع: "لبنان ليس مجرد قطعة جغرافية، بل هو رسالة. رسالة تقول للعالم: إن التعددية لا تعني التناحر، بل يمكن أن تكون غنىً مشتركاً. وإن الوحدة لا تعني الذوبان، بل ان نكون مختلفين ومتفقين في آن واحد. ومن هنا، تصبح الشراكة الروحية الوطنية ليست مطلباً ظرفياً، بل قدراً وجودياً للبنان، فهي سرّ بقائه، وضمانة مستقبله، وعنوان نهجه".
وختم: "لبنان الذي تعب من الانقسامات لا يحتاج إلى مزيد من الجدران، بل إلى جسور من المحبة والإيمان. وقوته الحقيقية لن تُستمد من الخارج، بل من داخله، من وحدة أبنائه، من صدق نواياهم، ومن التزامهم جميعاً بشراكةٍ روحيةٍ وطنيةٍ تليق برسالة الأرز وبإنسان هذا الوطن الحبيب".
شيخ العقل
والقى سماحة شيخ العقل كلمة، قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على النبيِّ الهادي الأمين، وعلى إخوته الأنبياء والمرسَلين، وعلى من تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. يُسعدُني أن نكون معاً اليومَ في حاصبيا، حاصبيا الأصالة والتاريخ والتقوى والوطنية، حاصبيا النموذجِ الجنوبيِّ الصامدِ والمتمسِّك بإرادة البقاء والارتقاء، وقد اخترناها بمعية اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز لتكونَ المحطةَ الثانية في سلسلة ندوات "الشراكة الروحية الوطنية" التي أطلقناها منذ أشهر، وليكونَ هذا العنوانُ محورَ التداخل والتفكير المعمَّق في مواكبة مسيرةٍ وطنيةٍ فكرية وعهدٍ جديد استبشرنا به خيراً بخروج لبنانَ سليماً معافى من غرفة الطوارئ التي اعتاد عليها، إن لم نقل من غرفة العناية الفائقة. ويسعدُني أن أكون معكم في هذا اللقاء الوطنيِّ الفكريّ الجامع، مرحِّباً ومتكلِّماً ومستمعاً، وأن يُلبِّيَ دعوتَنا هذه دولةُ نائب الرئيس المعروفِ بتجربتِه الغنيّة وبفكره المنفتح على الحوار وسبر الأغوار، والمتجاوبِ معنا باندفاعٍ لخوض غمار هذا التّحدي الثقافي الوطني".
اضاف: "الشراكةُ الروحيةُ الوطنية، مظلةُ الإصلاح والإنقاذ"، هذا العنوانُ الأشملُ والأساسُ الأمتنُ لبناء الدولة واستعادةِ الأمل، والشعارُ الأرقى الذي يُجسِّدُ معنى وجودِ لبنان، كوطنِ التنوُّع والشراكة؛ وطنِ التنوُّع في الوحدة، والشراكةِ في العمل، وطنِ المؤمنين بالله وبالعيش الواحد المشترَك، حيث الجميعُ أخوةٌ في الحقِّ والوطنية والتعلُّق بالوطن:
العيشُ مشترَكٌ، بل واحدٌ أبدا
وحبُّ لبنانَ عهدٌ بيننا عُهِدا
الدينُ يَجمعُنا والحقُّ مَرجِعُنا
شُقُّوا القلوبَ تُلاقوا الواحدَ الأحدا
نعم، أيُّها الأخوةُ والأخوات، إنَّ لبنانَ مختبَرُ إيمانٍ وتفاعلٍ وطني رائع؛ علمنةٌ روحانية، ومدنيةٌ مؤمنة، وتنوُّعُ مكوِّناتٍ حضارية تَجعلُه متميِّزاً بين بلدان هذا الشرق، شعبُه واحدٌ بالرغم من تعدُّد أديانه ومذاهبه وثقافاته، جذورُه متينةٌ وصَلبة، وأغصانُه وزهورُه مُتعدّدةُ الألوان والأحجام والاتجاهات، لكنَّها متفرِّعةٌ من جَذعٍ تاريخيٍّ وعربيٍّ ووطنيٍّ متين، وكأنها ترسمُ لوحةً جميلةً رائعةً كطبيعته الخلَّابة، والشعبُ اللبنانيّ الأصيلُ كتلك الطبيعةِ الخالدة عصيٌّ على التفكُّك والانكسار والزوال، مهما تغطرس العدوانُ وتجبَّر، ومهما برزت العوائقُ من داخلٍ أو من خارج، فالروابطُ الروحية والوطنية بين أبنائه متينةٌ وعصيَّةٌ على الانحلال، وتلك لَعمري هي مِظلَّةُ الإصلاح والإنقاذ، التي تجمعُنا دائماً تحت فيئها وأمنِها وأمانها.
من هذا المنطلق أطلقنا فكرةَ الشراكةِ الروحية الوطنية، وأردنا أن نخطوَ اليومَ الخطوةَ الثانية لاستكمال سلسلةِ الندوات حول هذا الموضوع برعاية صاحب الدولة ومشاركتِه، وبتقديرنا الكبير لما يتمتَّعُ به من عميق فكرٍ وسَعةِ تجربة، وقد عقدنا العزمَ على أن نَنشرَ تلك الثقافة فنجمعَ حولَها المداخلاتِ القيِّمةَ في أكثرَ من ندوةٍ ومعَ أكثرَ من رأيٍ من نخبة القوم، علَّنا نختتمُ هذه الندواتِ بمؤتمرٍ وطنيٍّ روحيّ يرعاه فخامةُ رئيس الجمهورية، إذ إنّ رعايتَه هي الأعلى بما تكتسبُ من قوّةٍ معنويَّة تلتقي في كنفِها جميعُ المكوِّنات والقوى الوطنية، لتُطرَحَ فيه خلاصاتُ الأفكار والمواقف، ومنها ما سيُقدَّمُ اليومَ من قِبل المتكلِّمين الكرام الأثرياءِ بفكرِهم وتجاربهم، والقادمين من منابرَ علمية وروحيةٍ مرموقة مَعنيةٍ بالإضاءة على تلك الثقافة وبتعزيز هذا التفاعلِ وبنشر الوعي بين أبناء الوطن".
وتابع: "إنّ هذه الندوةَ اليومَ تصبُّ في المنحى الذي أردناه منذ بداية طريقِنا ليكونَ التنوُّعُ الثقافيُّ والدينيُّ القائم في لبنان مغذّياً للشراكةِ الروحية الوطنية التي تُصبح بدورها سبيلاً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة التي نسعى إليها من خلال بناءِ جسور الحوار الدائم، مدركين أن هذا البناءَ الوطنيَّ والإنساني لا يَعنيَ هدمَ البناء الخاص بكل عائلةٍ روحية، فالتمسكُ بالهُوية الروحية الخاصة لا يتعارضُ معَ الانفتاح والحوار والعيش الواحد ومع المصالح العليا للوطن، لأننا جميعُنا مرتبطون بتراثنا الثقافي وبهويّتنا الروحية، ومتمسكون بخصوصيّاتنا، مع الرغبة في السعي نحو الاندماج والتكامل معَ شركائنا في الوطن؛ وهنا يكمن التحدّي المزدوج، الأولُ في تثقيفِ الشباب وتربيتهم على التمسُّك بالجذور والأصول، والثاني في الانفتاح على المعرفة والتطوُّر الدائم. لقد أكَّدنا وأصحابَ الغبطة والسماحة الرؤساءَ الروحيين جميعَهم أننا مستمرُّون في تلاقينا وتعاونِنا لتعزيز الثقة في مجتمعنا، بالروح الطيّبة وبالكلمة الطيِّبة وبالعمل الطيِّب، لا بالتعصُّب والتكفير والتطرُّف، فتلك لا تبني الأوطانَ، بل تهدمُها، أمَّا التوحيدُ فسلامٌ ورحمةٌ ومحبة، وهو جامعٌ مشترَك يتعدّى المظاهرَ والطقوس، وقد عبَّرنا عن ذلك شعراً منذ زمنٍ، فقلنا:
تعمَّقتُ في ديني الحنيفِ فقادني
إلى غيرِه، لو أنّ ذاك مُغايِرُ
وأدركتُ أنَّ الحقَّ أصلٌ، وكلُّنا
فروعٌ وأغصانٌ له وأزاهرُ
إذا فرَّقَتْ بينَ الأنامِ عبادةٌ
فتجمعُهم فوقَ الطقوسِ الجواهرُ
ومضى سماحته يقول: "أيُّها الأحبّة، إنَّ الوطنَ تاريخٌ، والتاريخُ لا يُمحى بحادثةٍ هنا ومواجَهةٍ هناك، وتراثٌ اجتماعيٌّ وأخلاقيٌّ لا يتبدَّلُ بخطأٍ من هذه الجهةِ أو خطيئةٍ من تلك. الوطنُ سيرةُ أبطالٍ قادةٍ نُجباء وفلَّاحين أُخوةٍ شرفاء، هو كهفُ تعبُّدٍ وصومعةُ نُسكٍ وساحةُ جَمعٍ في الأفراح والأتراح، هو مَيدانُ عملٍ وشراكةٍ ولقاء، كرْمٌ وكرَم، سيفٌ وضَيف، نسمةٌ وبسمة، فيه وُلِدنا وفيه نعيشُ وفيه نموتُ وفيه نُبعَثُ من جديد، ومعاً نُعليه فوق الخلاف والاختلاف لنجعلَه النموذجَ الحيَّ للإنسان. من هذا المنطلَّق الوجداني والواقعي أطلقنا هذه المبادرةَ كمشروعِ تفاعلٍ وطنيٍّ يبدأ بالثقافة والتربية ولا ينتهي بالتنمية والاقتصاد والسياسة، وفي كلِّ ذلك هناك ميادينُ عملٍ تنتظرُنا للقيام بالمبادرات، أمَّا دورُنا كمرجعياتٍ روحيّة، فإنّنا نراهُ دوراً إنسانيّاً وأخلاقيَّاً يشكِّلُ مِظلَّةً روحيّة تتلاقى مع مظلّةٍ وطنيةٍ كبرى تتمثَّل برئاسة الجمهورية ومؤسسات الدولة، لتشكِّل معاً مظلَّةِ الشراكة الروحية الوطنية الجامعة التي هي حاضنةُ الإصلاح والإنقاذ، وضمانةُ التلاقي السياسيِّ الوطنيِّ المنشود".
وختم: "حسبُنا أننا وضعنا المبادرة على سكّة الأمل وسنسعى معاً للوصولِ إلى الغاية المرجوّة، وقد حظينا بمشاركتِكم الثمينة اليوم، فليكن لنا حظُّ الاستماع والاستفادة، شاكرين الأخَ العزيز الشيخ وسام سليقا رئيسَ اللجنة الثقافية في مجلسنا المذهبي لتفضُّلِه بإدارة هذا اللقاء، ولأعضاء اللجنة الكرام ولمؤسسة الخليل الاجتماعية ولكل من ساهم وساعد في تنظيم هذا اللقاء الثقافي الوطني. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه".
ندوة
بعد ذلك أدار رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الشيخ وسام سليقا الندوة، قائلاً في البداية انه عندما نتحدث عن "الشراكة الروحية الوطنية، مظلة الإصلاح والإنقاذ"، فانما نتحدث عن اليد ممدودة التي تنتشل الوطن من عثراته، وعن تلك الروح الجامعة التي تُعيد للإنسان هويته، وللوطن رسالته. إنها ليست مجرد اتفاق، بل هي مصير، وليست مجرد لقاء، بل هي ولادة متجددة لوطنٍ واحد لجميع ابنائه من هنا، من حاصبيا التي أعطت مثال التضحية، إلى العرقوب الذي صان العهد وحفظ الكرامة والود إلى الجنوب الذي كتب بدمائه سفر البطولة، هنا يولد المعنى حيًّا: أن لا خلاص إلا معًا، ولا إنقاذ إلا بالوحدة، ولا إصلاح إلا بالمحبة".
وتوجه للحضور قائلا، "دعونا نرفع أصواتنا معًا: إن هذه الشراكة ليست ماضٍ يُروى وحسب، بل حاضر يُعاش، ومستقبل يُصنع. هي الطريق الذي يفتح أبواب الغد، هي الوعد الذي نحمله للأجيال، هي الرسالة التي تجعل من وطننا، رغم الجراح، وطنًا لا يموت. فحيّوا معي هذه الشراكة الروحية الوطنية، حيّوا معها حاصبيا والعرقوب والجنوب، حيّوا بها كل قلبٍ آمن أن الوطن أكبر من الطوائف، وأقدس من الانقسامات، وأجمل من كل الاختلافات. حيّوا هذه الشراكة، فهي وحدها مفتاح الإصلاح وباب الإنقاذ".
كفوري
واعتبر المطران الياس كفوري ان "الرسالات السماوية تدعو الإنسان الى التواضع والانفتاح على الأخر، فنستهجن وندين تصرفات أولئك الذين يأخذون من الدينأو من المذهب متراساً يحاربون الأخرين من ورائه، في حين أن الدين يدعو للمحبة والرحمة والتعقل وبذل الذات في سبيل الأخر المختلف. لذا، يجب أن نستلهم الديانات السماوية ونتأمل في ما تدعو إليه من تسامح وتراحم وتلاقي، لكي نكون جميعاً في خدمة الوطن صفاً واحداً وقلباً واحداً ويداً واحدة. لبنان نموذج للعالم في العيش المشترك لا بل للعيش الواحد بين مذاهب مختلفة، والصيغة اللبنانية صيغة فريدة في العالم. واتفاق الطائف كرس هذه الصيغة ودعا إلى الخروج من الطائفية السياسية نحوالمواطنة. فلنبحث عما هو مشترك، ولنبني عليه صرح الوطن على الصخر".
ورأى إن "اكثر ما يؤذي لبنان هو التطرف والتعصب وليد الجهل. فلنقف جميعاً صفاً واحداً في محاربة الإرهاب الأتي من الخارج، وكذلك في الدفاع عن وطننا في وجه الهجمات الإسرائيلية المتكررة، ولنكن جميعاً واحداً خلف جيشنا الباسل في الذود عن الوطن. وحدتنا الوطنية هي سلاحنا الأمضى في الدفاع عن وطننا، وحذار الإنزلاق وراء الذين يحاولون رمي الفتن وخاصة الطائفية ليزرعوا الشقاق بين أبناء الوطن الواحد. الوطن لا ينهض إلا بسواعد أبنائه متكافلين متضامنين متحدين في بوتقة واحدة على أساس المبادئ الدينية والثوابت الوطنية التي تجمع ولا تفرق".
وثمّن الكفوري "العلاقة مع بني معروف، التي كانت مبنية دائما على الأخوُة والاحترام المتبادل، فهم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. تجمعنا بهم روابط كثيرة على رأسها التمسك بلبنان الوطن النهائي وبالعروبة كهوية".
دلّة
بدوره رأى المفتي دلّة، إن "الحديث عن الشراكة الروحية الوطنية هو حديث عن صمّام أمان لوطننا، بلد التنوع والرسالات السماوية، وما أحوجنا اليوم أن نستعيد قيمنا الجامعة لنصون أمن مجتمعنا وكرامة إنساننا. الشراكة تعاون عملي على قيم إنسانية وأخلاقية والتقاء على المشترك، الذي هو مصدر قوة إذا توحّدنا، أو سبب ضعف إذا تنازعنا. وتأمين الاستقرار ومواجهة التطرف". مركزا على "القيم الروحية التي تردع العنف وتشيع ثقافة التسامح، وعلى تعزيز التضامن الاجتماعي، ودعم مؤسسات الدولة، ودمج المواطن مع السلطات الشرعية، فالتجربة في حاصبيا ومرجعيون كانت دائمًا مثالًا في التعايش والعيش المشترك، ويمكننا أن نفعّل منتديات حوارية شهرية تجمع رجال الدين والبلديات والشباب، وإطلاق المشاريع المشتركة وتوجيه الخطاب نحو الوسطية والاعتدال. والشراكة الروحية الوطنية لا تكتمل إلا إذا التقت مع دور مؤسسات الدولة التي وُجدت أساسًا لخدمة المواطن وحماية استقراره"، متحدثا عن المؤسسات المدنية كالمجالس البلدية، والمدارس، والجامعات، ووزارات الخدمات، والمؤسسات الأمنية والعسكرية – الجيش اللبناني، الذي "هو الضامن الأول لوحدة الوطن، والحامي للسيادة والاستقرار، وزرع قيم المواطنة والتعايش، وبالنسبة لواقعنا اللبناني، فان ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرّقنا".
وختم: "نحن قادرون أن نقدّم للعالم صورةً مشرقة عن لبنان التلاقي والعيش الواحد، والشراكة الروحية الوطنية مشروع حياة يومي نعيشه ونمارسه، فلنكن جميعًا يدًا واحدة، نحافظ على أمننا وأماننا، ونبني وطنا يليق بأبنائنا، حيث يتعايش المسلم والمسيحي، الكبير والصغير، في كنف العدالة والسلام".
خريس
وتحدث الشيخ فؤاد خريس في مداخلة باسم السيد علي فضل الله الذي غاب لأسباب صحية، معتبرا ان "الموضوع المطروح له من الأهميّة في هذه المرحلة، لبناء شراكة وطنيّة تضمن لهذا البلد الاستقرار الّتي نحن أحوج ما نكون إليها لبناء وطن أصبح من الواضح أنّه لا يبنى بطائفة أو مذهب أو موقع سياسيّ".
واذ أمل بأن يسهم اللّقاء في "تقديم إضاءات لبناء شراكة تفضي إلى قواسم مشتركة نعيش عليها"، دعا الى "الحوار الجدّي الصّريح، للوصول إلى صّيغة يبنى عليها هذا الوطن الّذي ينعم بتنوّع طوائفه ومذاهبه، للخروج من الواقع الّذي بتنا نعيشه حين تتحوّل الطّوائف إلى أشبه بقبائل تتصارع في ما بينها على المكاسب والمصالح ويسعى كلّ فريق إلى أن يعزّز موقعه أو يحظى بمواقع جديدة بالاتّكاء على الخارج أو بالاستفادة من أيّ حدث يجري على الصّعيد الدّاخليّ أو الخارجيّ".
وختم متسائلا: "هل نريد لبنان فينيقيًّا أو هو جزء من العالم العربيّ أو الإسلاميّ أو يتّجه إلى الشّرق أو إلى الغرب أم هو جزء من محاور دوليّة أو إقليمية؟. فلنتصارح اذا حيث لا زلنا نتعامل بالتّسويات، ونحن معنيّون بالعمل على بناء دولة نتطلّع إليها وهي خيارنا، كما اننا نريد لهذا البلد أن ينفتح على العالم كلّه إلّا مع من يعاديه وأن يمدّ جسور التّواصل معهم. فقيمة لبنان التّنوّع ميزة ثمينة، حذارِ أن نحوّله إلى نقمة ومشكلة ونخذل بذلك قيمنا الرّوحيّة والإيمانيّة ونقدّم صورة مشوّهة عنّا. التّحديات الّتي تواجه البلد كبيرة وتستهدف وجوده علينا وعي المخاطر وإلى الحكمة وزرع بذرة لولادة شراكة حقيقيّة وطنيّة".
متري
واخيرا تحدث نائب رئيس الحكومة الدكتور متري، فحيّا الحضور، وناقلا تحيات وموّدة رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء واشتياقهما لزيارة هذه المنطقة العزيزة، لما سمعته منهما صباحا، وسعيهما لجهة الحفاظ على وحدتنا الوطنية واستقلال بلادنا وتحررها".
اضاف: "منذ جئت الى هذه المنطقة تعملت معنى العيش معا، والعيش المشترك شيء والعيش بتفاعل مستمر شيءاخر، واحسب ما رأيته عيشا معا وائتلافا حول قضايا وطنية كبرى تجمع بين قلوبكم وعقولكم، وانصح كل لبناني مخلص ان يأتي اليكم ليتعلم الكثير حول معنى العيش معا،وهذا اسمّيه "اللبنانية المستعادة والمتجددة"، اذ لسنوات تصدّعت لبنانيتنا وصرنا نحتاج الى تجديدنا لفهم معنى ان نكون لبنانيين، وعنوان الندوة في تأكيده على الشراكة يدل على تحقيق ذلك. واحسب ان دعامتي اللبنانية المستعادة، المساواة في المواطنة والشراكة في القيم".
واذ قارن متري بين مرحلتي اتفاق الطائف والتي سبقته، والمواطنين وكجزء من الجماعات، والبلد القائم على مجلسين الاول محرر من القيد الطائفي يساوينا في المواطنة والثاني يمثلنا كأعضاء في جماعات نسميها روحية. فالقيم التي تجمعنا لكي نكون مواطنين احرارا ومستقلين واعضاء في جماعات متحابّة وليست متنازعة، معروفة بالسليقة وبالفطرة التي نص عليها القرآن الكريم. القيم الدينية ايا كانت لغتها وتاريخها كثيرا ما تتلاقى مع بعضها. وبالنسبة لما يسمى بحوار الاديان ثمة فكرة وقاعدة ذهبية نجدها في كل الاديان تقول: "لا تفعل لغيرك ما لا تريد لغيرك ان يفعله بك". تلك قيمة دينية مشتركة اسمها الرحمة، ومدنية اسمها العدالة، والرحمة أعلى شأناًمن العدالة التي لا تخلو من الاشارات الى الرحمة".
وتابع: "الشراكة تحتاج لتجديد مستمر، حيث الانقسامات ليست سياسية فحسب والكثير منه مصنوع بفعل ارادة سياسية تصنع الانقسام وبقدر كبير من الاثارة والهندسة، والطائفية الاجتماعية التي تسمح للطائفية السياسية بان تحدث الانقسامات، تبدأ من نظرتنا الى التاريخ، فلكل من جماعاتنا اهتمام بمعزل عن الاخرين وترى نفسها بصورة جماعة مضطهدة او متفوقة، كل يبحث عن تاريخه المنفصل ويُظهر أُبّهة، والبعض يبالغ في الحديث عن خرافة الاصل".
واستشهد متري بالكاتب كمال صليبي في كتابه تاريخ لبنان الحديث، تاريخ جبل لبنان بمعزل عن المناطق التي ضُمّت اليه وحوّلته إلى لبنان الكبير، ثم ندم وكتب كتاباً آخر "لبنان بيت بمنازل كثيرة"، فنحن في بيت واحد وان كان لكل منا منزله. مشكلتنا مع الطائفية الاجتماعية، ان الاختلاط بين اللبنانيين والتبادل بينهم تراجع، وهناك بين اللبنانيين نرجسية الفروقات الصغيرة. بين الشباب من يقول هؤلاء يشبهوننا واولئك فلا، والحقيقة بان هذا تضخيم للفروقات الصغيرة، ثم نزعة المقارنة بمواجهة الاخرين، وازدواجية اللغة في ما بيننا، ومع الاخرين. فاستعادة اللبنانية المتجددة هي اللغة الواحدة، كما يجب ان لا نضع خيرنا الخاص في تناقض مع العام، فالخير المشترك هو خير للجميع".
وختم: "المصالحة في لبنان لا تحتاج لجلسات كهذه، اللبنانيون قادرون على التصالح وليسوا بحاجة لوسطاء محليين او اجانب، لكن هم يحتاجون، مصالحة مع التواضعوالعقلانية والتسامح، ولان يعتبروا بان التنوع ليس مصدرا للفرقة وانما للالتقاء".
في ختام اللقاء تلقى سماحة شيخ العقل لوحة تذكارية عليها خريطة فلسطين باسم تجمع العلماء المسلمين، وقدّم النائب السابق الخليل درعا للوزير متري بمباركة سماحة شيخ العقل عربون تقدير لمسيرته الوطنية.
مركز الثقافة
وكان سماحة شيخ العقل رعى قبل ذلك افتتاح "مركز الثقافة التوحيدية في منطقة حاصبيا"، وذلك في مقام نبي الله شعيب (ع) في بلدة الكفير، بدعوة من اللجنة الدينية ومصلحة الشؤون التربوية والدينية في المجلس المذهبي، بحضور جمع من المشايخ والفاعليات.
وبعد تقديم من رئيس المصلحة الشيخ فاضل سليم، مؤكدًا أنّ "إنشاء مركز الثقافة التوحيدية في هذا المكان المقدّس يُعيد إحياء رسالة الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد الخالص ومعرفة الله بالعقل والقلب، ومنارة لأبناء المجتمع، تُعرّفهم بحقيقة التوحيد والقيم المعروفية، وتغرس فيهم المبادئ الأخلاقية التي تضيء دروبهم في زمن التحديات". ألقى مسؤول المقام الشيخ حمزة أبو العز، كلمة معبرة، رحّب فيها بالحضور، مباركًا الأيادي التي عملت وسعت في سبيل هذا الصرح المبارك، ومتمنيًا أن "يكون المركز منارةً للإيمان والعلم والمعرفة والخير". ومؤكدا على "أهمية التشبّث بالعادات التوحيدية الأصيلة التي ورثناها عن الآباء والأجداد"، ووجّه شكرا خاصا لأبناء وادي التيم الذين ساهموا في ترميم المقام وبناء السور الواقي له، ولسماحة شيخ العقل على "دعمه الدائم ورعايته للمشاريع الروحية والثقافية".
ثم تحدث رئيس اللجنة الدينية في المجلس الشيخ عصمت الجردي كلمة شكر فيها سماحة شيخ العقل على دعمه ورعايته لافتتاح هذا المركز، الذي هو واحدٌ من سلسلة مراكزَ ثقافية دينية، وقال: "قصدنا من افتتاح هذ المركزِ في هذا المكان الشريف بالذات، بأن يكونَ موئلاً للمعرفة والخير تتجلّى فيه هذه القيمُ الروحية. كما ان مكان وجوده قبسٌ من هذا النور الرباني المبارك، نورِ رسالتِه التي تدعونا إلى أن نستفيقَ من سباتنا العميق، سباتِ الغفلة عن الله تعالى في هذا العالم المليء بالفوضى والضياعِ والبعد عن الفضائل، ورسالتِه التي تحرّرُنا من عبادة الأصنام، وأيُّ صنمٍ أخطرُ من عبادة الذات وحبِّ الجاه والمال والرئاسة، والاستعلاء على الآخرين والتعدّي عليهم وإطماسِ العدل وتجاوزِ الحق".
شيخ العقل
وختاما القى سماحة الشيخ ابي المنى كلمة قائلا: باسمه تعالى، وعلى نيَّة الخير والتوحيد، وتأكيداً على الثبات في الإيمان، والتجذّر في الأرض والوطن، وعلى تمسّكنا بالهوية التوحيدية الإسلامية، بالرغم من الافتراءات والإساءات المتعمَّدة، ويقيناً منَّا على أنَّ العمل الثقيفي هو الردَّ الأقوى في مواجهة العدوان المستمرِّ على جنوب لبنان واستكمالاً لصمود أهله، إذ إن الجنوبَ هو عنوانُ الكرامةِ والعطاء، وهو على مرّ التاريخ أرضُ الصمودِ والوحدة، وملتقى القيمِ الوطنية والعربية التي نعتزّ بها جميعًا، فإننا نفتتح اليوم وإيَّاكم "مركز الثقافة التوحيدية" هذا في مزار النبي شعيب (ع) في بلدة الكفير الغالية، وفي حمى الوادي الأزهر الغنيِّ بتراث السلف الصالح وبمناقب الأعيان عبر الزمان، ليكون واحداً من سلسلة مراكزَ تثقيفيةٍ تربوية نرعاها في المجلس المذهبي، بإشراف اللجنة الدينية في المجلس التي تتحمّلُ مسؤوليةَ المتابعة، برئاسة الأخ التربوي العريق الشيخ عصمت الجردي، وبمساعدة المصلحة الدينية والتربوية في المديرية العامة للمجلس المذهبي، وعلى رأسها الأخ الكريم الشيخ فاضل سليم".
اضاف: "توجُّهُنا واضحٌ وأملُنا كبيرٌ بأن تتمكن هذه المراكزُ الواعدة من زرع بذور الحكمة والوعي والإيمان والقيم التوحيدية والمعروفية في نفوس أبنائنا وبناتنا وأهلنا الموحدين، لتكون رافدةً للمجالس والخلوات الدينية، فتمهدَ الطريق أمام الراغبين في الاستزادة والالتزامِ الدائم، وتزوِّدَ الجميعَ بثوابتَ روحية ومعلوماتٍ أوليَّة لا بدَّ منها للإضاءة على الهوية الروحية للموحدين، ولمعرفة النفس ومعرفة الخالق تعالى، والاستدلال إلى سبيل النجاة، خصوصاً في هذا الزمن المتغيِّر الذي تتضاعف فيه التحديات وتزداد ضبابيّةُ المشهد في ظلّ عالمٍ ماديٍّ تكنولوجيٍّ ناعمٍ جذّاب، وعولمةٍ متوحشة مفترسة تكاد تخطفُ منّا الهويةَ الذاتية والخصوصيةَ الأخلاقية والاجتماعية، وتكاد تأخذ كبارَنا وصغارنا إلى غير مكان. مراكز الثقافة التوحيدية التي نُنشئُها، إضافةً إلى المدارس التي تُعنى بالتربية الدينية، وإلى الكليّة التوحيدية الجامعية في عبيه، هي المنهجُ الأقوم والردُّ الأنسبُ على تلك التحديات وعلى ما تتعرَّضُ له قيمُنا ومعتقداتُنا من إساءة، وما يواجهُ أهلَنا من تساؤلاتٍ وإحراجات، إذ هو بمثابة البابُ الأول للرشد والهداية، بحيث يتمكن أبناؤنا الطالبون من الاسترشاد أولاً على الطريق، علّهم يتمكنون بإيمانهم من طرق باب الهداية، ويَلجون بجهدِهم وجهادِهم بابَ الاستئناس والاطمئنان وعيش سعادة المعرفة والحقيقة".
واستطرد: "لقد صممتْ مشيخةُ العقل على إنجاز هذا المشروع التثقيفي منذ انطلاقة عهدنا فيها، وقد لقِينا التشجيعَ عليه من المخلصين المندفعين للمساعدة والدعم، شعوراً منَ الجميع بضرورة تحصين المجتمع بدروع الإيمان والثقافة التوحيدية وبالالتزام بمقنضيات المسلك التوحيديِّ الشريف والتخصُّل بخصاله الشريفة، صدقاً باللسان وحفظاً للإخوان وتركاً للعدم الفاني وتبرُّؤاً من طغيان كلِّ ما هو فكرٌ أو عملٌ شيطاني، سعياً إلى تحقيق التوحيد في ذواتنا وعيش الرضا والتسليم عيشاً خالصاً مع الله وفي كنفه. مشروع نشر مراكز الثقافة التوحيدية هو أهمُّ تلك المشاريع التي عقدنا العزم على السير بها، بالإضافة إلى مشاريعَ أُخرى، كمشروع استثمار الأوقاف التي يُقالُ عنها الكثير، في ما هي أراضٍ وعقاراتٌ تنتظر التنمية والاستثمار لتكون منتجة وقادرة على تلبية بعض حاجات مجتمعِنا، ومشروع رعاية الأسرة المعروفية التوحيدية المهدَّدة بالمزيد من التفكُّك، والمحتاجة إلى الإعداد والتأهيل والرعاية والمساعدة في معالجة المشاكل داخلها. وإذا لم تكن هذه المشاريع الثلاثة هي كلُّ ما نتمنّاه، لكنَّها تشكِّلُ الركائزَ الأساسيةَ للبناء؛ البناء الروحي والبناء المادي والبناء الاجتماعي. لذلك نحن هنا اليوم في مهمةٍ طال انتظارُها، لافتتاح مركز الثقافة التوحيدية هذا، على غرار المراكز القائمة في عبيه وبعقلين وعاليه وقرنايل وغيرها، معتذرين عن التأخُّر في الافتتاح بسبب تراكم الظروف المانعة ووقوع الأحداث المؤلمة في بلادنا وفي الجوار، راجين أن يكون هذا المركزُ إضافةً إلى المراكز الأخرى القائمة والمراكز المماثلة التي نأمل افتتاحَها تِباعاً في معظم المناطق، بمثابة مؤسسةٍ ثقافية توحيديةٍ تشكِّلُ تجربةً دينية علمية تربوية متكاملة، إلى جانب كلية الأمير السيد عبد الله التنوخي للعلوم التوحيدية في عبيه والتي نعوِّل عليها في تخريج نخبة من الأخوة والأخوات القادرين على تغذية المراكز الثقافية بأصحاب الكفاءة والقدرة على الإفادة".
تابع سماحته: "إن النهضة العمرانية والعلمية على اختلافِ أشكالها عملٌ مهمٌّ جداً في حياة المجتمعات، لكنّ النهضةَ الثقافية والتربوية الروحية هي الأهم، لما توفِّرُه من دروعٍ واقية وقوى نورانية يحتاجُها الإنسانُ والمجتمعُ للخروج من هذا النفق الطويل الذي أُدخلَ العالَمُ فيه ولتدارُكِ أخطارِ ظُلُماته القاتلة، وهذا ما يتطلب من الجميع الاستعدادَ، وعدمَ الاستسلام، والتفكيرَ الجدّي بأساليب المواجهة على كافة الصعد الروحية والاجتماعية والأخلاقية. واليومَ، وفي أحد مزاراتِنا المبارَكة، في مزار النبي شعيب (ع)، الذي أرسله الله سبحانه وتعالى ليهديَ إلى عبادة الله تعالى، ولِيُقوِّمَ اعوجاجَ المجتمع، ويُصلحَ ما أفسده البشر: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وفي أحد أماكن حِلِّه وتَرحالِه، في هذه البقعة المتباركة باسمه وبطهر أنفاسِه، والمستمدةِ نورانيتَها من نورانيته وبركته، كما من بركة المشايخ الأعيان العارفين بالله من هذا الوادي الأزهر الذي ننهل من مَعينه العذب معاني العزمِ والإرادة والإيمان، نُطلقُ هذه المبادرة محاولين السيرَ على خُطى النبيِّ شُعيب (ع) وخُطى المشايخ الأطهار، في التربية على الإيمان وسلامة المسلك وحسن المعاملة، علَّنا نوفَّقُ في صون تراثنا التوحيدي الأثيل الذي حفِظه السلفُ الصالح، والارتقاءِ به إلى حيث يقضي الزمانُ ويقتضي الواجب".
وتوجه الى "المشايخ الأفاضل، الأخوة والأخوات الكرام، أبناءَنا الأعزَّاء، لو كنَّا لنباليَ بما نتعرَّضُ له من إساءاتٍ وافتراءات ترمي إلى النيل من مجتمعنا التوحيدي وهدم أركان الطائفة وهيبتِها، لتوقَّفنا عن العمل منذ زمن، لكنَّنا نستعينُ بالله سبحانه وتعالى العالمِ بخفايا الأمور وبنوايانا الطيِّبة وباحتضان مشايخِنا الأجلَّاء لنا، ونردُّ على المتطاولين بالعمل المُجدي ولا ننحدرُ إلى غير مستوى ومكان، طالبين رضا الله سبحانه وتعالى ودعاء مشايخِنا الأجلَّاء، ودعم المخلصين الصادقين الكرام، والحمدُ لله على الدوام".
بعد ذلك جال سماحة شيخ العقل والحضور في القاعة المخصصة للندوات واللقاءات الثقافية والدينية لتدشين المركز.
زيارات
وسبق المناسبتين وتلاهما زيارات قام بها سماحة شيخ العقل ابي المنى مع الوفد المرافق الى مشايخ واعيان استهلها بلقاء الشيخ الجليل أبو حمد جميل برغشة في منزله في بكيفا، وخلال اللقاء وضع سماحة الشيخ مضيفَه في أجواء النشاط التوحيدي والاجتماعي في المنطقة والواقع العام الراهن. وتوجه إلى بلدة الخلوات، لتقديم واجب العزاء بوفاة المغفور له المعاون محمود فاعور الذي خدم في دار الطائفة لمدة 18عاما، وكان في استقباله آل الفقيد ومشايخ البلدة والجوار، والقى الأستاذ وهبي أبو فاعور كلمة شكر باسم العائلة لسماحة الشيخ على المواساة، وكلمة من الشيخ سامي فاعور، وردّ سماحة الشيخ أبي المنى بكلمة عن مزايا الفقيد وخدمته في وظيفته ومحبة وتقدير زملائه له في عمله ايضا.
أضاف: "يجب أن تبقى الديار ثابتة، وإن رحل عنها الرجال والشباب، وان نبقى صامدين لا نهتزّ، وتبقى دار الطائفة مهما تعرّضت للهجوم لأنها ثابتة على مواقفها التوحيدية. فعلى الخلوات أن تبقى على ثباتها كجبل حرمون وجبل الشيخ، ونبقى معاً ثابتين في وطننا، في أخلاقنا المعروفية، وفي توحيدنا الراسخ".
زغلة
ولبّى سماحة شيخ العقل دعوة النائب السابق انور الخليل لزيارة منزله في زغلة حاصبيا، بحضور نائب رئيس الحكومة متري وجمع من الشخصيات والفاعليات الروحية والمتكلمين في الندوة، وألقى الخليل كلمةً ترحيب، مثمّنًا "الزيارة المباركة، التي تُجسّد التواصل الروحي بين القيادات الدينية والوطنية"، ومؤكدًا أنّ "ما يقوم به سماحته هو تجسيدٌ حيّ للرسالة التوحيدية الجامعة". كما تكلّم الوزير طارق متري، مشيدًا "بعلاقته الوطيدة بسماحة الشيخ"، ومؤكدًا "ما يجمعهما من رؤيةٍ إنسانيةٍ ووطنيةٍ مشتركة، تعلي شأن الإنسان وتدعو إلى الحوار والانفتاح". وردّ سماحة شيخ العقل، بكلمة عبّر فيها عن "شكره العميق لمعالي الوزير أنور الخليل على حسن الاستقبال وكرم الضيافة"، مؤكدًا أنّ "حاصبيا والجنوب هما عنوانٌ دائمٌ للوحدة والعيش المشترك. ثم قدّم للنائب السابق الخليل باسم اللجنة الثقافية والمجلس المذهبي درعًا تكريمية، "عربون وفاءٍ وتقديرٍ لعطائه الوطني وحرصه على جمع الكلمة وتوطيد أسس العيش المشترك".
وزار سماحة شيخ العقل ايضا عضو المجلس المذهبي الأستاذ حكمت نوفل في بلدة الكفير، الذي رحّب بالزيارة، ومُثنيًا على دور سماحته في افتتاح المركز الثقافي في مقام النبي شعيب (ع)، وعلى جهوده الدؤوبة في نشر الثقافة والوعي في المناطق التوحيدية كافة". وردّ سماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى بكلمة على حسن الاستقبال، منوها ب"أيادي نوفل البيضاء ودعمه المتواصل لنشر العلم والمعرفة"، ومشيرًا إلى أنّ "الثقافة التوحيدية هي النور الذي يهدي الإخوان والأهل إلى الدين القويم والصراط المستقيم". مؤكّدًا أنّ "المجلس لا ينحصر في البُعد الديني فحسب، بل يمتدّ إلى الاجتماعي، والتربوي، والثقافي، والاغترابي، ساعيًا دومًا إلى تعزيز التواصل بين أبناء الطائفة في الوطن والمهجر"، ولافتا الى ثلاثة مشاريع أساسية يحملها في فكره ووجدانه لتطوير واقع الطائفة وتنميتها: مشروع استثمار الأوقاف، من خلال تأسيس شركاتٍ استثمارية منتجة تعود بريعها لخدمة الأهداف الاجتماعية والروحية. مشروع الأسرة التوحيدية، الذي يسعى إلى تحصين العائلة من الطلاق والتفكك، وتعزيز الترابط الأسري والقيم المعروفية في المجتمع. مشروع الثقافة التوحيدية، الهادف إلى نشر الوعي الديني والمعرفي عبر إنشاء مراكز ثقافية توحيدية في مختلف المناطق، لتكون مناراتٍ للعقل والإيمان والتنوير".
وأشار سماحته إلى أنّ "المهمة الأسمى تبقى في ترسيخ الشراكة الروحية والعيش المشترك، وهي الرسالة التي يحملها إلى كل لبنان"، ولفت الى انه "بحث مع رئيس الجمهورية موضوع عقد مؤتمر وطني شامل برعاية الرئاسة في ختام سلسلة النوات حول الشراكة الروحية الوطنية، هدفه دعم المجتمع وتعزيز روح الوحدة الوطنية والعيش المشترك، مؤكدًا أنّ العقل التوحيدي والضمير الوطني هما جناحا النهوض الحقيقي".
ووصل سماحة الشيخ ابي المنى إلى بلدة ميمس لزيارة عضو المجلس المذهبي السيد أنور علامة، بحضورعدد من الشخصيات والأهالي. وبعد ترحيب من علامة، واشارتهإلى "الدور الكبير الذي يقوم به سماحة الشيخ بالتعاون مع وليد بك جنبلاط في تحييد الطائفة ودرء الفتنة عنها"، اكد أنّ هذا "الموقف التاريخي سيُكتب بأحرف من نور في سجل المروءة الوطنية". ثمّ تكلّم شقيقه الاستاذ سمير علامة مثنيا على "تكامل الأدوار بين القيادة السياسية في دار المختارة، والقيادة الدينية ممثّلة بسماحة شيخ العقل، فذلك توحيد في جوهره، ونور في مضمونه".
وألقى سماحة الشيخ أبي المنى كلمةً شكر، ومشيرا الى "الدور الوطني والسياسي للطائفة، الذي يمنحها قيمتها التاريخية والروحية، فهي غنية بتراثها ووحدتها، جامعة لا مفرّقة، ومتمسكة بالشراكة الروحية، التي هي السبيل لبناء المجتمع وصون التماسك الوطني، مؤكّدًا أن مجد الموحّدين لا يُقاس بالعدد، بل بالدور والثبات على القيم والعقيدة، وبالتمسك بالهوية الوطنية العربية والإسلامية الصحيحة".
وختم سماحته بالإشارة إلى المشاريع الثلاثة التي يعمل عليها المجلس المذهبي لتطوير شؤون الطائفة: استثمار الأوقاف في مشاريع إنتاجية تعود بالنفع العام، مشروع رعاية الأسرة التوحيدية لحماية العائلة من التفكك، نشر الثقافة التوحيدية لتحصين المجتمع".
وقصد سماحة شيخ العقل خلوات البيّاضة الزاهرة مع الوفد المرافق، بحضور جمع من المشايخ ايضا، ليزور بعد ذلك منزلي الشيخين فندي جمال الدين شجاع وسليمان جمال الدين شجاع في حاصبيا بحضور جمع من المشايخ من البلدة والمنطقة، وزيارة الشيخ حسان جنبلاط، بحضور المفتي حسن دلة والإمام مسعد نجم وعدد من فعاليات البلدة، حيث استذكر سماحة الشيخ ابي المنى زيارته للأزهر الشريف في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي، ولقائه مع الامام الاكبر آنذاك الشيخ جاد الحق، مستعرضًا تلك التجربة في التعلم والاطلاع على العلوم الاسلامية في الجامعة الأزهرية، ومؤكدًا "رغبته في تعزيز التعاون بين كلية العلوم التوحيدية وجامعة الأزهر لما له من أثر كبير في المجتمع".
كما تحدّث المفتي حسن دلة، منوها "بدوره في تعزيز العيش الواحد والوحدة المجتمعية"، ومشيرًا إلى أنّ "هذه المنطقة لها خصوصية مميزة في اهتمام سماحته، وأنه يحرص على محبة أهل المنطقة والارتباط بهم، وهو ما تعلمه من والده الذي غرّس فيه قيمة المحبة بين الجوار من الموحدين الدروز". وتوجه اليه قائلا: "أنت من يرفع المراكز، وليست المراكز هي من يرفعك". وزار سماحة شيخ العقل الدكتور نبيل عماشة في منزله في البلدة.
كذلك زار سماحة شيخ العقل بلدة شويا مقدما التعازي بالمرحومة شفيقة أبو فاعور، والدة السيد شفيق أبو علوان، ومنزل عضو المجلس المذهبي الأستاذ رمزي جمّاز المجاور مكرراً التعزية بالمرحوم والده الشيخ أبو يوسف قاسم حسن جماز، وختم الجولة بزيارتين خاطفتين في عين قنية لصهره الشيخ كامل حديفة ومرافقه الدركي يوسف سنان.