كلمة سماحة شيخ العقل الأساسية في ندوة عاليه
2025-09-17
هنا النص الأساسي لكلمة سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى في ندوة "البعد المواطني في وثيقة الأخوة الإنسانية للسلام العالمي والعيش المشترك" التي جرت في قاعة جمعية الرسالة الاجتماعية في عاليه الاثنين ١٥-٩-٢٠٢٥
البعد المواطني في وثيقة الأخوّة الإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين وعلى أنبياء الله الطاهرين أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
في خضمِّ ما شهدناه ونشهده في ديارنا وديار أهلنا وأبناء جلدتنا، على مساحة أوطاننا العربية في ما كان يُعرف سابقاً ببلاد الشام، وإلى أبعدَ من تلك الديار، يحتّم علينا الواجبُ الديني والوطني الدعوةَ الدائمة إلى تغليب منطق الدولة على ما عداه والتأكيدَ على مفهوم المواطنة في مواجهة مفاهيم حكم التطرُّف والفئوية والتسلُّط، انطلاقاً من مبدأ العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، واستناداً إلى ما تدعو إليه الشرائعُ السماوية والحكمةُ الإلهية من المحبة والرحمة والأخوَّة بين بني البشر، وهو ما أكّدت عليه وثيقةُ الأخوّة الإنسانية للسلام العالمي والعيش المشترك.
إننا إذ نقدِّر للمجلس النسائي اللبناني وللّقاء للحوار الديني والاجتماعي ولتجمُّع الهيئات النسائية في الجبل دعوتَهم إلى هذه الندوة حول موضوع البعد المواطني في الوثيقة، ونشارك فيها إلى جانب صاحبَي السماحة والسيادة اللذين تكرّما بحضورهما ومشاركتهما، ومع السادة والسيدات المتكلمين، فإننا نرى أن البعدَ المواطني هو العامود الفقري في الوثيقة، ولو لم يرِد مصطلحُ المواطنة إلّا قليلاً، لكنّها تؤكّد في سياق بنودها على أن الأخوّةَ الإنسانية هي السبيلُ الأسلمُ إلى السلام، والمواطنة بمفهومها الأشمل هي عاملُ سلام على المستويين الوطني والعالمي.
وبحسب "شرعة المواطنة الحاضنة للتنوّع" التي كنّا قد أعددناها بمشاركة نخبة من المؤسسات الحوارية العربية والدولية تمهيداً لانعقاد مؤتمرٍ عام في أبو ظبي قُبيل انتشار جائحة كورونا، فإنّ مفهومَ المواطنة يرتكز على ثلاثة مبادئ رئيسة: أولُها ضمانُ حقوق المواطن وحريّاتِه المدنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة؛ وثانيها قيامُ المواطن بواجباته تجاهَ الدولة والمشاركة في الحياة العامة؛ وثالثُها حكمُ القانون لتأمين المساواة والعدالة للجميع، وهذا ما نطالب به جميعُنا، وما نأملُه أن يتحقّق في دولنا وأوطاننا.
لقد شكّل إعلانُ مراكش (2016) الذي عالج موضوعَ حقوق الأقليّات في المجتمعات ذات الغالبيّة المسلمة، محطّةً هامّة من حيث اعتمادِه لمبدأَي التعدّديّة والحريّة الدينيّة، وتأكيدِه على أصالة مفهوم المواطنة في الإسلام، كصيغة "تعاقدية ودستورٍ عادل لمجتمع تعدّدي، أعراقًا وديانةً ولغةً، يتمتّع أفرادُه بنفس الحقوق، ويتحمّلون نفسَ الواجبات."
أما "المواطنةُ الحاضنة للتنوّع"، وهو المصطلحُ الأكثر دقةً الذي اعتمدناه في أدبياتنا الحوارية، فتهدفُ لأن تكونَ المواطنةُ مَعنيةً باحترام التنوّع واحتضانه، اجتماعيًّا وثقافيًّا ودينياً ووطنياً، وفق منظومة متكاملة من السياسات والتشريعات والسلوكيّات التي تُجسّد الثقافةَ التشاركيّة الشاملة، بغية مشاركة جميع المواطنين في الحياة العامّة، وسماعِ صوتهم، وتلبيةِ حاجاتهم الخاصة من جهة، وإدماجِ خصوصيّاتهم الثقافيّة في الحياة الوطنيّة من جهة أخرى.
المواطنةُ تحمي المجتمعات من الانزلاق نحو تشكّلِ مجموعاتٍ منعزلةً، وتسمحُ بعيش الأخوّة والتضامن بين الناس، والانتقال من الوجود المشترَك إلى الوجدان المتشارَك فيما بينهم، وترتكز مبادؤها على خمسة بنود أساسية تأخذ أهميّة إضافيّة وأبعادًا خاصّة في فَهمها وتطبيقها، وهي:
1- الكرامة الإنسانيّة، إذ لكلِّ إنسانٍ كرامتُه مهما كمان مذهبه وعِرقُه وموطنُه.
2- الهويّة الوطنيّة الجامعة، وهي التي ينضوي الجميع تحت مِظلَّتِها في إطار التنوُّع في الوحدة. 3- المشاركة الشاملة في الحياة العامّة، وذلك ضمن حدود احترام القوانين والحقوق والواجبات.
4- الحريّة الدينيّة، تأكيداً على حرية المعتقَد وعلى احترام حقّ الإنسان والجماعات بالتمسُّك بالهويات الروحية واحترام كلٍّ منها لهوية الآخر.
5- ثقافة الحوار، التي تركّز على توسيع المساحات المشترَكة بين المواطنين وبني البشر وعلى وحدة القيَم والقضايا الإنسانية والاجتماعية والبيئية والوطنية المشترَكة.
هذه البنود تشكِّل مطلبَ الجميع، إذ من خلالها تتبلورُ الإنسانية ويتجلَّى الرقيُّ الاجتماعي ويتحقّقُ السلامُ المستدام.
لا يمكنُ لجماعةٍ واحدة أن تختصرَ الحالةَ الوطنية مهما كان عددُها وحجمُها، ولكن لا بدّ من الإقرار بأنّ عدالةَ الأكثرية تُخفّفُ من قلق الأقلية، وبأن إزالة هذا القلق لا يتمُّ إلّا بقيام الدولة الوطنية الجامعة التي تحترمُ البيئةَ الحاضنة وتحافظُ على عناصرها المتنوِّعة مهما قلّ عديدُها، إذ إنّ الجماعات على اختلاف أحجامها تُشكّل معًا النسيجَ الاجتماعيَّ للوطن، وغنى إرثه التاريخي والصورةَ الجامعة لمستقبل أبنائه، وهذا النموذجُ من المواطنة لا يستند إلى إيديولوجيّات أحاديّة تصهرُ المواطنين في قالب هُويّاتي جامد، بل يقوم على احترام الحريّات والتعدّديّة وتعزيز الشعور بالانتماء والشراكة والتكامل ضمن الجماعة الوطنيّة الواحدة.
لقد أطلقت وثيقةُ الأخوّة الإنسانية دعوةً للجميع "ليُعِيدُوا اكتشافَ قِيَمِ السَّلامِ والعَدْلِ والخَيْرِ والجَمالِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، وليُؤكِّدوا أهميَّتَها كطَوْقِ نَجاةٍ للجَمِيعِ، وليَسعَوْا في نَشْرِ هذه القِيَمِ بينَ الناسِ في كلِّ مكان، معلنةً بأنَّ أهمَّ أسبابِ أزمةِ العالمِ اليَوْمَ يَعُودُ إلى تَغيِيبِ الضميرِ الإنسانيِّ وإلى إقصاءِ الأخلاقِ الدِّينيَّةِ... مما دفع الكثيرين إلى الانخراط إمّا في دوامة التطرُّف الإلحادي واللاديني، وإمّا في دوامة التطرُّف الديني والتشدُّد والتعصُّب الأعمى".
إذا كان هذا هو ما نَصّت عليه الوثيقةُ منذ سنوات، فكيف يكون الأمرُ اليومَ بعد ما حصل وما يحصُلُ في غزّةَ، وما حصل مؤخَّراً في السُّويداء، من قتلٍ وذبحٍ وسَبيٍ واغتصابٍ وحرقٍ ونهب، وكأنّ الهمجية الإسرائيلية والتطرّفَ التكفيري لا يَحكمُه دينٌ ولا تؤثّر به وثيقة ولا يضبطُه قانون. ألا يعلمُ أولئك المنحرفون أنّ الأديانَ لم تَكُنْ أبَدًا بَرِيدًا للحُرُوبِ أو باعثةً لمَشاعِرِ الكَراهِيةِ والعداءِ والتعصُّبِ، أو مُثِيرةً للعُنْفِ وإراقةِ الدِّماءِ، كما جاء في وثيقة الأخوَّة الإسلامية المسيحية، مشيرةً إلى أن هذه المَآسِي هي حَصِيلَةُ الانحِرافِ عن التعاليمِ الدِّينِيَّة، ونتيجةُ استِغلالِ الأديانِ في السِّياسَةِ، وتأويلاتِ طائفةٍ من رِجال الدِّينِ – في بعض مَراحِلِ التاريخِ – ممَّن وظَّفوا الشُّعُورَ الدِّينيَّ لدَفْعِ الناسِ للإتيانِ بما لا علاقةَ له بصَحِيحِ الدِّينِ.
لقد طالبت الوثيقة بوَقْفِ استخدامِ الأديانِ في تأجيجِ الكراهيةِ والعُنْفِ والتطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى، والكَفِّ عن استخدامِ اسمِ الله لتبريرِ أعمالِ القتلِ والإرهابِ؛ لإيمانِنا المُشتَرَكِ بأنَّ الله لم يَخْلُقِ الناسَ ليُقَتَّلوا أو ليَتَقاتَلُوا أو يُعذَّبُوا أو يُضيَّقَ عليهم في حَياتِهم ومَعاشِهم، وأنَّه – عَزَّ وجَلَّ – في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه، وإيماناً منّا بإنَّ الإرهابَ البَغِيضَ ليس نِتاجًا للدِّين – حتى وإنْ رَفَعَ الإرهابيُّون لافتاتِه ولَبِسُوا شاراتِه – بل هو نتيجةٌ لتَراكُمات المفاهيم الخاطئةِ لنُصُوصِ الأديانِ.
حبذا لو يُقتدى بما جاء في هذه الوثيقة التاريخية التي تَرجمت ما جاء في القرآن والحديث من آياتِ رحمة ودعوة للدفع بالتي هي أحسن: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"، وما جاء في الإنجيل وأسفاره من رسائل محبة ورحمة ودعوة للسلام: "لِتَكْثُرْ لَكُمُ ٱلرَّحْمَةُ وَٱلسَّلَامُ وَٱلْمَحَبَّةُ". هذ هو الصراط المستقيم، أمَّا ما عداه فاعوجاجٌ وانحرافٌ وبُطلٌ وبُهتان.
ولتكن دعوةً للمُصالَحة والتَّآخِي، ونِداءً لكلِّ ضَمِيرٍ حيٍّ يَنبذُ العُنْفَ البَغِيضَ والتطرُّفَ الأعمى، ونداءً لِكُلِّ مُحِبٍّ لمَبادئِ التسامُحِ والإخاءِ التي تدعو لها الأديانُ وتُشجِّعُ عليها، وشِهادةً لعَظَمةِ الإيمانِ باللهِ الذي يُوحِّدُ القُلوبَ المُتفرِّقةَ ويَسمُو بالإنسانِ، ورمزًا للعِناقِ بين كُلِّ مَن يُؤمِنُ بأنَّ الله خَلَقَنا لنَتعارَفَ ونَتعاوَنَ ونَتَعايَشَ كإخوةٍ مُتَحابِّين، وكمواطنين متساوين.
هذا هي أبعادُ الوثيقة، وهذه هي حقيقةُ الموحدين الدروز، وهذا هو واقعُ أهلِ الجبل المعتزِّين بتراثِهم الأخلاقي والاجتماعي والوطني، وبعيشهم الواحد ومصالحتِهم الراسخة، والداعين دائماً معنا إلى شراكة روحية وطنية نادينا بها على مستوى الوطن كلِّه، شراكةٍ تُشكِّلُ مظلّةً واقية لمسيرة الإصلاح والإنقاذ التي أطلقها العهدُ الجديد، راجين من الله تعالى التوفيقَ والرّشاد، وداعين لكم بالخير والسّداد.