شكّلت زيارة البطريرك الماروني الكردينال بشارة الراعي الى منطقة الجبل محطة مهمة في تعزيز "ثمار مصالحة الجبل التي تمّت برعاية رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط والبطريرك الراحل مار نصرالله بطرس ّصفير منذ 22 عاما، كما انها حملت مواقف سياسية ووطنية.
استهل الراعي جولته عند التاسعة والنصف صباحاً بزيارة سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى في دارته في شانيه، وقد رفعت فوق شوارع البلدة الرئيسية اللافتات المرحّبة بالبطريرك الراعي وحملت مواقف له وللشيخ أبي المنى.
رافق البطريرك رئيس أساقفة بيروت المطران بولس عبد الساتر وراعي أبرشية صيدا المارونية المطران مارون العمار، ولفيف من الكهنة، بحضور النواب: أكرم شهيب، نزيه متى، راجي السعد، هادي أبوالحسن، فيصل الصايغ والنائب السابق فادي الهبر، رئيس محكمة الاستئناف الدرزية العليا القاضي فيصل ناصر الدين، القاضي الشيخ غاندي مكارم ومشايخ وأعضاء من المجلس المذهبي، وكيل داخلية الجرد في الحزب التقدمي الاشتراكي جنبلاط غريزي رئيس بلدية شانيه حسين أبي المنى وفاعليات رسمية واجتماعية وثقافية وأهلية وحشد من الشخصيات ورجال الدين والأهالي.
ألقى الشيخ كمال أبي المنى كلمة ترحيبية بالبطريرك الراعي والوفد المرافق، مقدّراً مواقف البطريرك "الوطنية التي هي موضع تقدير واحترام ". وتوجّه الى البطريرك بالقول: "انتم لا تزالون تدقّون ناقوس الخطر وهمّكم الكبير هو لبنان الوطن والرسالة والوحدة في التنوّع"
وشكر شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز في كلمته البطريرك على "هذه الزيارة الطيّبة التي تكرّمتم بها إلى دارنا ودار أجدادنا في شانيه، والتي تركت أطيب الأثر في قلوب أبناء البلدة وجرد عاليه والمنطقة" قائلاً: "شكراً لأصحاب السيادة والآباء المحترمين الذين رافقوكم، وشكراً للأخوة الكرام أصحاب السعادة والسماحة والفضيلة الذين لبّوا دعوتنا، من النوّاب والقضاة والمشايخ والآباء والزملاء أعضاء المجلس المذهبي ورؤساء البلديات والمخاتير والأصدقاء،
نحن نؤكّد معاً على رسالتنا الواحدة والتي هي رسالة المحبة والأخوّة، رسالة الجَمع والحوار والوطنية، رسالة البطريركية المارونية ورسالة مشيخة العقل، رسالة الجبل، رسالة الشوف والمعروف، المستقاة من رسالة السيد المسيح (ع) ورسالة الرسول الأكرم (ص) والأئمة الأطهار (ع)، رسالة مشايخ التوحيد وأهلِ العِرفان...
لقاؤُنا اليومَ تأكيدٌ على نهجٍ بدأناه معاً بعد أن طوينا صفحة الحرب والتدمير، و استكمالٌ لمسيرةٍ روحية وطنية أردناها معاً، وانطلقنا بها يداً بيد لنواجه المستقبل بمزيدٍ من الإيمانِ بالشراكة والتكامل والمسؤولية الإنسانية..
صاحب الغبطة، معاً نؤكّد على روح المصالحة بين أبناء الجبلِ الواحدِ والوطن الواحد، معاً نجعلُ من المصالحة سبيلاً للارتقاء والتقدُّم، فتكون لنا معاً، كما قلنا في الديمان، نيَّة طيّبة وكلمة طيّبة وعمل طيّب، نريدُها مَساراً عملياً تشاركياً تفاعلياً، نريدُها زرعاً اجتماعياً صالحاً وبناءً وطنياً متيناً، وقد آن الأوانَ لنحوّلَ هذه المصالحة التاريخية الحقيقية إلى برامج عملٍ ومشاريع انتاجية وقوّة اقتصادية، تحوّل الجبل إلى نموذجٍ متقدّمٍ، بالإرادة القوية الموحَّدة، وبالعمل المشترك لجَني الثمار.. ثمار المصالحة والشراكة، ولتثبيت الشباب بأرضهم والحدِّ من الهجرة الداخلية والخارجية.
لقاؤنا، صاحب الغبطة، رسالةٌ لكلِّ لبنان، ومن خلاله نقولُ للجميع: لنكن في وطننا موحَّدينَ مجتمعين، لنحقّق معاً لبنانَ وطنَ الرسالة فعلاً، لا قولاً فحسب..
أهلاً بكم مجدَّداً، ومعاً نمضي ونتابع إلى الباروك، فبيت الدين.. فبعقلين.. فالمختارة... فإلى كل لبنان".
بدوره، شدّد البطريرك الراعي على "واجب بناء الوحدة الداخلية في لبنان الغني بالقيَم الثمينة، ونحن من حيث لا ندري نسقط هذه القيَم لتموت".
وقال: "نحن دولة الانفتاح وهذا ما يسمّى بالحياد الايجابي الذي هو من صميم لبنان وهويته وطبيعته، ومن دونه لبنان يفقد دوره ورسالته التي ذكرها القديس البابا يوحنا بولس الثاني. لبنان بحاجة إلى الوحدة ونحن مدعوون للعمل على بناء الوحدة الداخلية للحفاظ على لبنان ورسالته في ظلّ التنوّع والتعدّدية، وثمة مسؤوليّةٌ مشتركة أن نعمل معاً من أجل وحدة شعبنا، وكما قلت سابقاً ولن أتراجع عنه: لبنان يجب أن يكون أرض الحوار والتلاقي وألا يفقد رسالته، فالبلد اليوم مريض وعلينا أن نبحث ونشخّص المشكلة. علينا أن نبني على المصالحة التي قام بها البطريرك صفير ووليد جنبلاط"، داعيا الى "عقد قمة روحية اسلامية مسيحية لمواكبة الواقع الراهن"،
ثم قدّم شقيق شيخ العقل ورئيس البلدية درعا تقديرية للراعي باسم اهالي شانيه كما قدّم وفد من لقاء أبناء الجبل ضم شخصيات مسيحية ودرزية برئاسة اللواء المتقاعد شوقي المصري للراعي "وثيقة عبيه"، متوجّهاً للبطريرك: دعوتكم الى حياد لبنان الايجابي أصبحت حاجة ماسّة بعد التفلت الذي نشهده، فكلّنا معكم في إبعاد لبنان عن حرائق المنطقة فهل يتعظون قبل أن يعمّ الخراب؟".
الباروك
ثم توجّه البطريرك الراعي والشيخ أبي المنى بسيارة واحدة وتوقّف موكبهما في الباروك حيث استقبلهما أمام النصب التذكاري لرشيد نخلة مؤلف النشيد الوطني حشد من فاعليات الباروك والفريديس الروحية والأهلية وسط اللافتات الترحيبية والاعلام.
وكانت كلمة لرئيس بلدية الباروك الفريديس ايلي نخلة أشار فيها الى أن "غبطة البطريرك وشيخ العقل هما مدرسة في العيش الواحد نتعلم منهما ونعلم أبناءنا ليزرعوا في النفوس المحبة وبناء جبل ناصع على الرغم من الظلم الذي تعيشه بلادنا".
بدوره شكر البطريرك الراعي للقيّمين حفاوة الاستقبال ولفت الى انه "لا يكفي ان نقول كلنا للوطن لأنه للأسف لسنا كلنا للوطن ولا يكفي أن نقول أن لبنان وطن نهائي ونجد أن الولاء منتقص ولا يمكننا أن نعيش الكذبة بين ما نقول وما نفعل . نحن اليوم في الباروك نقف أمام الوجدان الوطني ونجدّد مع الجميع إيماننا بأن لبنان وطن حقيقي ونهائي لجميع ابنائه وكل الولاء له من دون سواه. المؤسف ان كل البلدان يتلى فيها النشيد الوطني كاملاً الا لبنان نكتفي بالمقطع الاول من هنا من أمام نصب رشيد نخلة فلنعلن التزامنا قول نشيدنا الوطني كاملاً لأنه حلقة متكاملة لا يمكن قطعها لما تحمله من التزام وطني يليق بنا كلبنانيين"..
ورأى الشيخ أبي المنى أن "ما من كلام بعد كلام غبطته الذي بحضوره وأخلاقه الرفيعة يعبّر بلساننا وكلمته كلمتنا لا سيّما في هذه البلدة التي منها النشيد الروحي للشيخ أبو حسن عارف حلاوي والنشيد الوطني لرشيد نخلة، هذه بلدة العيش الواحد والأصالة نبعاً وارزاً ونشيداً"، مشدّداً على "تعميم نموذج هذه اللوحة الوحدوية على سائر الوطن"
بيت الدين
وزار البطريرك الراعي والشيخ أبي المنى بعد ذلك مطرانية بيت الدين للموارنة التي رفعت على طريقها الاعلام واللافتات المرحّبة وحملت مواقف للرجلَين، وكان في استقبالهما عدد من النواب والفاعليات الدينية والاجتماعية، وبعد ترحيب من المطران مارون العمّار، حيّا شيخ العقل "الدور الإيماني والوحدوي من خلال رسالة المحبة والسلام التي يؤديها المطران العمار على رأس المطرانية".
بعقلين
وتوجّه البطريرك الراعي وشيخ العقل بعد ذلك الى بعقلين التي ارتفعت فوق مداخلها وشارعها الرئيسي اللافتات المرحّبة والمؤكّدة على المصالحة حيث عقد لقاء بعنوان "لقاء الشوف الجامع – ثمار المصالحة... وآفاق المستقبل"، في مكتبة بعقلين الوطنية، بحضور ممثل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب تيمور جنبلاط النائب مروان حمادة، والنواب: جورج عدوان، اكرم شهيب، فريد البستاني، هادي ابو الحسن ، بلال عبدالله ، نزيه متى، كميل شمعون وراجي السعد، والنائبين السابقين نعمة طعمة وناجي البستاني، ممثلين عن مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد هاني محمد الجوزو وعن بطريرك الروم الكاثوليك يوسف العبسي المطران إيلي حداد وعن نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى مفتي صور وجبل عامل الشيخ حسن عبدالله، المطارنة: الياس كفوري، بولس عبد الساتر، بولس مطر والعمار، رئيس محكمة الاستئناف الدرزية العليا القاضي فيصل ناصر الدين، والقضاة رئيف عبدالله، فؤاد حمدان وغاندي مكارم، ومشايخ وآباء وقائمقام الشوف مارلين قهوجي وفاعليات رسمية ودينية وعسكرية وأمنية وبلدية واجتماعية وحشد غفير من أبناء المنطقة.
شيخ العقل
وبعد النشيد الوطني اللبناني وكلمة افتتاح من مستشار شيخ العقل الشيخ عامر زين الدين وتقديم من رئيس المركز الكاثوليكي للاعلام المونسنيور عبده أبو كسم وكلمة المطران مارون العمار، ألقى شيخ العقل أبي المنى كلمة جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله في كل حين، والصلاةُ على نبيِّ الله الأمين، وعلى إخوته الأنبياء والمرسَلين، وعلى من تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين...
صاحبَ الغبطة والنيافة، أصحابَ المعالي والسعادة، أصحابَ السماحة والفضيلة والسيادة، أصحابَ المقامات الكريمة، السادةُ والسيدات، الأهلُ والأخوةُ والأصدقاء...
أهُو لقاءُ الشوف الجامع، أم لقاءُ الجبلِ ولقاءُ الوطن؟ أهِي دعوةٌ لجني ثمارِ المصالحة أم دعوةٌ لرسم آفاق المستقبل؟ أم هذا وذاك وتلك؟ في مكتبة بعقلينَ الوطنية، بل في مدينة التواصل الثقافي عاصمةِ الإمارة المعنية، بعقلينَ التاريخِ المشبَعِ بعبير التقوى الصاعدِ من شذا شيخِها الجواد والسلفِ الصالح من الأعلام والأسياد، وبعبقِ الرجولة والأصالة الدافقِ من مَعين العقل والدين الذي ميّز أبناءَ عائلاتِها الأصيلين، وبطيبِ العيش الآمن معَ الله في مَداهُ الأرحب، والمتجلّي بعيش الصفاءِ والأُخوَّةِ معَ أبناء كلِّ عائلةٍ ومذهب... بعقلينَ النموذجِ الأرقى للجبل الموحِّد والموحَّد، منذ أن كان للموحِّدين ولإخوانِهم المسيحيين يدٌ تقاومُ وتدافع عن الوجود، ويدٌ تزرعُ ومن خيراتِ الأرضِ تجود، ومنذ أن كان لرجال هذا الجبل عينٌ تسهرُ وتتعبَّدُ اللهَ، وعينٌ تنعمُ بمحبة أبناءِ الله؛ يدٌ تصافحُ وفمٌ يُصارح وقلبٌ يُصالح، وعينانِ تنظرانِ بشغفٍ منَ بَعقلينَ إلى دير القمر وبيتِ الدين، ومن تلال السموِّ والعنفوان الممتدّة من قِممِ الباروك الشمَّاء إلى ودايا البركة وسهول الخير المعطاء... إنَّه الشوفُ: صخرٌ لا يتفتَّت، وعطرٌ لا يتشتَّت، ونبعٌ لا ينضَب، وأرزٌ لا يبوخُ ولا يتعب.. شوفُ الخلوة والكنيسة والمسجد... شوفُ المختارة؛ مختارةِ الكمال العصيّةِ على التعصُّب والتقسيم، شوفُ الخلوة؛ خلوةِ جرنايا الواصلة بين دير القمر وكفرحيم، شوفُ الكنيسة والمسجد؛ كنيسةِ سيِّدة التلّة وكنيسة الدرِّ ومسجدِ الدير ومسجد الأمير شكيب أرسلان.
صاحبَ الغبطة والنيافة، أصحابَ السيادة، أيُّها المحترمون
أنْ نلتقيَ وإيَّاكم والمشايخُ الأجلَّاءُ اليومَ، وبحضورِ زعامةٍ وطنيَّةٍ راعيةٍ لهذا الجبل الحبيب، وبحضور نُخبةِ القوم والمجتمع والوطن، وفي رحاب سجنٍ تحوَّل مكتبة، فذلك ليس بغريب، فبكركي وزعامةُ الجبل وكلُّنا معاً حوّلنا هذا الجبلَ منذ عشرينَ عاماً ونيِّف من ساحة حربٍ وحقدٍ وخِصام إلى واحة مصالحةٍ وحبٍّ وسلام، والتقينا في الإرادة والرهان قبل أن نلتقيَ في الزمان والمكان، وها نحن مستمرُّون في تلاقينا لتعزيز الثقة وإنعاش الأمل، ومستعدُّون دائماً لأن نجعلَ من هذا الجبلِ المعروفيِّ المسيحيِّ الدرزيِّ المجلببِ بعباءات التقوى والأرز والسنديان والمعمَّمِ بعمائم المحبة ونقاء الثلج نموذجاً أرقى لكلِّ لبنان، إذ هو قلبُ لبنان، وقد تعاهدنا في المختارة وفي بكركي، وبالأمس القريب من أمام بوَّابة الديمان أن نصونَه بالصلاة وبرموش العيون؛ بالروح الطيّبة والكلمة الطيِّبة وبالعمل الطيِّب. كيف لا؟ ونحن أبناءُ الحقِّ والتوحيدِ، والمحبةُ هي لُبُّ التوحيد، والتوحيدُ جامعٌ مشترَك فوق المظاهر والطقوس، وقد عبَّرنا بالأمسِ عن ذلك شعراً، فقلنا:
تعمَّقتُ في ديني الحنيفِ فقادني
إلى غيرِه، لو أنّ ذاك مُغايِرُ
وأدركتُ أنَّ الحقَّ أصلٌ، وكلُّنا
فروعٌ وأغصانٌ له وأزاهرُ
إذا ما فرَّقَتْ بينَ الأنامِ عبادةٌ
فتجمعُهم فوقَ الطقوسِ الجواهرُ
إخواني، أبنائي، أيُّها الأحبّة،
من هذا المنطَلَقِ الروحيِّ والإنسانيِّ والاجتماعيّ لم تكن مصالحةُ الجبل التاريخية ورقةَ تفاهمٍ موقَّعةً من زعيمٍ وبطريركٍ وشيخٍ وشهودِ حال، بل كانت عهدَ الحكماء والأبطال الرجال، عهداً من العقل إلى العقل ومن القلب إلى القلب، عهداً يقولُ إنَّ الجبلَ تاريخٌ، والتاريخُ لا يُمحى بحادثةٍ هنا ومواجَهةٍ هناك، وتراثٌ اجتماعيٌّ وأخلاقيٌّ لا يتبدَّلُ بخطأٍ من هذه الجهةِ أو خطيئةٍ من تلك. الجبلُ سيرةُ أبطالٍ قادةٍ نُجباء وفلَّاحين أُخوةٍ شرفاء، الجبلُ كهفُ تعبُّدٍ وصومعةُ نُسكٍ وساحةُ جَمعٍ في الأفراح والأتراح، الجبلُ مَيدانُ عملٍ وشراكةٍ ولقاء، الجبلُ كرْمٌ وكرَم، سيفٌ وضَيف، نسمةٌ وبسمة، فيه وُلِدنا وفيه نعيشُ وفيه نموتُ وفيه نُبعَثُ من جديد، معاً نحميه، معاً نبنيه، معاً نُعليه فوق الخلاف والاختلاف، ومعاً نجعلُه النموذجَ الحيَّ للإنسان، ولكلِّ لبنان.
صاحبَ الغبطةِ، أيُّها الخُلَصاءُ الأوفياء،
زيارتُكم الممتدَّةُ من بلدتِنا شانَيه في جُرد عاليه إلى الباروكِ فبيتِ الدينِ فبعقلينَ فالمختارة خطوةٌ مبارَكةٌ، لها رمزيَّتُها العالية، إذ هي رسالةُ تأكيدٍ وتجديد، أردناها معاً بإرادةٍ واحدة ورؤيةٍ مشترَكة، تأكيدٍ على نهج المصالَحة والأُخوَّة والمحبة، وتجديدٍ لمسيرة العمل المشترَك من أجل نهضة الجبل وصَون الوطن. التطلُّعاتُ كثيرة والانتظاراتُ كبيرة والتحدياتُ خطيرة، فلماذا لا نتَّحدُ لمواجهتِها ولجَني ثمار المصالحة وتعزيز الأمل بالمستقبل؟ الدولةُ تتراجعُ وتنهارُ، وأبناؤُنا يعيشون حالةَ البطالة واليأس أو يهاجرون بحثاً عن غدٍ أفضل. الأرضُ تكادُ تتصحَّرُ والأوقافُ مُهمَلة، وأغنياؤُنا يستثمرون بعيداً ومعظمُهم في ما وراءِ البحار، ألا يستوجبُ الأمرُ مصالحةً من نوعٍ آخر؟ مصالحةً على شكل مبادراتٍ عمليّة لبناء المؤسسات وإقامةِ المشاريع المُنتِجة؟ ألا يجدُرُ بنا أن نضعَ خطةً استراتيجيةً للنهوض بأوقافِنا وجبلِنا، وبالاعتماد على أنفسِنا أوَّلاً؟ ومن خلال تشكيل مجموعةٍ استثماريةٍ قادرةٍ على تنفيذ ما يُتَّفقُ عليه من مشاريعَ تنمويةٍ في مختلَف المجالات الزراعية والصناعية والخدماتية والسياحية وغيرِها؟
لقد واجهَتِ المختارةُ الأزمةَ الاقتصاديةَ الخانقة كعادتِها بالمزيد من العطاء وتَحمُّلِ المسؤولية واحتضانِ العائلات والمؤسسات، وهي التي لم تعرفِ التخاذلَ والتواني أبداً، فقامت إلى حدٍّ كبيرٍ مقامَ الدولة، كما فعل آخرون على قَدر طاقاتِهم ومواقعهِم، ولكنّنا، كقياداتٍ روحية وكقيِّمينَ على الأوقاف، مَعنيُّون بالوقوف إلى جانب أهلِنا ومجتمعِنا، من خلال خطةٍ منظَّمة تفتح الآفاقَ نحو المستقبل، سيّما وأنّ في الجبل رجالاً قادرين مُقتدرين، مؤمنين بوطنِهم، حريصينَ مثلَنا على الكرامةِ والوجود، ونحن معهم نُردِّدُ القولَ المأثورَ ونقول": "إنَّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد"، ونؤمنُ أنّ اللهَ لا يُريدُ لنا إلَّا الخيرَ متى ما أردناه لأنفسِنا. جاء في الحديث القُدْسيِّ: "ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصرُ به..."، وهذا ما نرجوه؛ أن يُحبَّنا اللهُ، واللهُ لا يُحبُّنا إلّا إذا تقرَّبنا منه وكنَّا مُتحابِّين فيه، لا متخاصمين، مجتمعينَ في كنَفِه، لا متفرّقين، مُدركينَ أنَّ للمصالحةِ روحاً وجوهرَاً، لا اسماً ومظهراً فحسب. روحُها الإيمانُ بالله وبالوطن، وجوهرُها المحبةُ والأُخوَّة، وقد أردناها "كَلمَةً طَيِّبَةً كشَجرةٍ طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمآءِ"، فتعهَّدنا زرعَها بالعنايةِ والعمل، وتعاهدنا على ألَّا نقطفَ ثمارَها الطيِّبة إلَّا معاً موحِّدين موحَّدين؛ مسلمين ومسيحيين.
صاحبَ الغبطة والنيافة، أصحابَ المعالي والسعادة، الأخوةُ المشايخ، أصحابَ السيادة المطارنة، الآباءُ المحترمون، أبناءَ الجبلِ الشامخ، أيُّها اللبنانيُّون...
نعيشُ وإيَّاكمُ اليومَ حالةً وطنيةً مُحبِطة على مستوى الدولة؛ من تعطيل المؤسسات إلى غيابِ الحلول والتسويات، وكأنَّ الدستورَ أصبح عندَنا تعميماً يُلغى بتعميم، أو كأنَّ المُهَلَ الدستوريَّة أضحت فُرَصاً تَروحُ وتأتي ولا مُوجِبَ لاحترامِها، أو كأنّنا لم نبلغْ سِنَّ الرُّشدِ السياسيِّ بعد، فبِتنا ننتظرُ الخارجَ لِيرسُمَ لنا سبيلَ الخروج من الأزمات، وغالباً ما نسألُ عن دورِنا كمرجعياتٍ روحيّة، وإنّني أراهُ دوراً إنسانيّاً وأخلاقيَّاً جامعاً، بل مِظلَّةً روحيّة للتلاقي السياسيِّ الوطنيِّ المنشود، فهل يُمكنُ من موقعِنا أن نُمهِّدَ لمجلس النُوّابِ ولرؤساء الكُتَلِ النيابية بالدعوة إلى لقاءاتٍ حواريَّة على مستوى النُّخَبِ والمثقَّفين الوطنيِّين؟ وقد صدرت بالأمس القريبِ من إحدى تلك المجموعات ومن قاعة بكركي وثيقةٌ جيِّدة بعنوان "رؤية جديدة للبنانَ الغد"، وصدرت مثيلاتُها من هذا المِنبر أو ذاك الملتقى، أفلا يُستحسَنُ أن يلتقيَ أصحابُ هذه الوثائقِ على طاولة حوارٍ وتفاهمٍ علَّهم يُنتِجون وثيقةً مشترَكة تُحفِّزُ المسؤولين لإنتاج الحلولِ الناجعة بدلاً من المراوحة وعادةِ انتظار الخارج وارتقاب الفرَج؟
إخواني، أيُّها اللبنانيُّون الطيِّبون
إنَّ الحوارَ سبيلٌ وليس غاية، فلماذا لا ندعو إليه ونسلُكُه لاختراق جدرانِ التعطيل والإغلاق؟ لا قفزاً فوق الدستور ولا تغييباً للحياة الديمقراطية، بل سعياً إلى "جمال التسوية" النافعة المُجدية، فالرئيسُ المنتظَرُ لا يجوزُ أن يبقى مُختطَفاً ومفقوداً، بينما الناسُ في حالةِ بؤسٍ، ومعاملاتُهم في حالة جمودٍ وتسييب، وعواصمُ القرار تسعى وراء مصالحِها أولاً، أفلا نسعى من أجل مصلحة الوطن؟ والدولُ العربيةُ في حالة جفاءٍ معنا ونحن متخاصمون، أفلا يجب أن نتلاقى ونتصالحَ معَ أنفسِنا لنعيدَ رونقَ تلك العلاقة معَ عمقِنا العربيّ التي هي سبيلُ خلاصٍ وحياةٍ للبنان؟ والثروةُ النفطيَّةُ المرتقَبة يُخشى عليها من الضَّياع في خضمِّ التجاذب السياسي، ألا يجدرُ بنا أن ننظرَ إليها كخشبة خلاصٍ فنرفعَها فوق المصالح الفئوية وفوق المراهنات على هذه الدولة أو تلك؟ لتصبَّ نتائجُها في صندوقٍ سياديٍّ بامتياز يساهمُ في إنقاذ الوطن وحماية اقتصاده ووفاء ديونه للمودِعينَ وللدائنين، لا صندوقَ محاصصاتٍ يتحكَّمُ فيه القويُّ ويُحرَمُ منه الضعيف، ويكونُ مصدرَ نِقمةٍ لا مصدرَ نعمة، لا سمحَ الله؟
أيُّها الشوفيُّونَ الشرفاءُ، يا أهلَ الجبلِ الوطنيُّونَ بامتياز...
لقد قيلَ وقُلنا: "إذا كان الجبلُ بخيرٍ فلُبنانُ كلُّه بخير"، ذلك هو الشِّعارُ وتلك هي الحقيقة، وإنَّنا لَمؤمنون بالجبل إيمانَنا بالوطن،، مؤمنون بالشوفِ، وللشوفِ أقول ما قُلتُه يوماً في تكريم أحد الآباء المحترمين:
آمنتُ بالشوفِ أرزاَ شامخاً حُرَّا
وأرضَ خيرٍ ونبعاً فجَّرَ الصَّخرا
آمنتُ بالشوفِ، والمعروفُمِيزتُهُ
والحبُّ أيقظَ في شِريانِه الجَمرا
فأوقدتْ خَلوةُ التوحيدِ أنجُمَها
وأشعلَ الدَّيرُ من أنوارِه بَدرا
فعادَ يُشرِقُ في تاريخِنا جبلٌ
وعاد يَصنعُ من آلامِنا فجرا
لقد بزَغَ الفجرُ في آب 2001، فجرُ المصالحة والوفاق، وها نحن اليومَ في أَوج النهار نَنعمُ بالدفءِ والنور، وما علينا إلّا الجِدُّ والاجتهاد وبذلُ الجُهود، حتى وإن غابت الشمسُ جوازاً، فمجدُ الجبلٍ بعونِ الله لن يَغيب.عشتُم، عاش الجبلُ وعاش لبنان.
الراعي
وألقى البطريرك كلمة عدد فيها "ثمار" مصالحة الجبل، مشيراً الى أنها على الصعيد السياسي تمثلت بعودة الحضور الحزبي السياسي الى الشوف وكذلك حرية العمل السياسي وعلى الصعيد الاجتماعي عودة المسيحيين الى أرزاقهم وإعمار بيوتهم والكنائس بشكل ملفت وعادت الحياة الاجتماعية بين المسيحيين والدروز بكل حسناتها. وعلى الصعيد التربوي فتحت المدارس والمؤسسات والمعاهد والجامعات وحضرت الرهبانيات لتؤدي رسالتها في هذا الشأن".
وأكد الراعي على ان المصالحة التي جرت منذ ٢٢ سنة، نعم حصلت وسَلكت طريقها لأنّ الشعب اللبناني مؤمن أن لا خلاص للبنان إلا بوحدته.
وقال: ان الشعب اللبناني مؤمن ألا خلاص للبنان إلا بوحدته والوحدة في التنوّع فنحن معاً نشخّص مشكلتنا ونبحث عن العلاج لمَا نُعانيه وهذا ما نصبو إليه مع شيخ العقل ولن نتراجع عن هذا العمل لأنّه واجبٌ وطنيّ".
ورأى الراعي أنه "على المستوى الكنسي والمسيحي المصالحة ساهمت في عودة السكان المسيحيين إلى منازلهم وأرزاقهم وإعادة بناء بيوتهم بشكل لافت إعادة بناء الكنائس المهدمة والقاعات، عودة الحياة الاجتماعية كمسيحيين مع إخواننا الدروز والمسلمين بكل إيجابيتها".
وشدّد على ان "كلمة مصالحة تتطلّب أعمالاً ومبادرات وأؤكّد أنّ صحّة لبنان من صحّة الجبل والكنيسة مستعدة للتعاون مع المواطنين لتحقيق امكانيات العيش".
وتوجه الراعي الى أبي المنى: "نلتزم معًا خدمة الوحدة، وخدمة وحدة أبناء لبنان، نحن معًا لنشخّص مشكلتنا ونبحث عن العلاج، وهذا ما نسعى إليه مع سماحة الشيخ وذوي الإرادة الحسنة. ولن نتراجع لأنه واجب وطني".
بعد ذلك قدم رئيس جمعية تجار الشوف ايلي نخلة ومدير محمية أرز الشوف نزار هاني مداخلتين عن أهمية المشاريع التنموية التي أقيمت في المنطقة وقد ساهمت المصالحة في إنجاحها.
وتلقى البطريرك الراعي وشيخ العقل هدايا ودروعاً تقديرية من بلدية وأهالي بعقلين ومن شباب وشابات بعقلين ومن جمعية تجار الشوف وخان القصر في بعقلين، الى جانب لوحة صخرية من تصميم نظام حاطوم قدمها باسم شيخ العقل تخليداً للزيارة لتعلق في بكركي،حيث أزاح الراعي وأبي المنى الستارة عنها أمام تمثل فخر الدين في ساحة المكتبة.
المختارة
وقصد الوفد بعد ذلك قصر المختارة حيث زار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط،
وحضر إلى جانب وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب تيمور جنبلاط، نورا جنبلاط، وديانا جنبلاط.
كما حضر المطارنة العمار، عبد الساتر، مطر، الكفوري، حداد، القاضي حسن عبد الله، الجوزو، وممثل رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني الوزير السابق طلال أرسلان الوزير السابق رمزي مشرفية.
وحضر أيضاً النواب الحاليون: جورج عدوان، فريد البستاني، غسان عطالله، نزيه متى، كميل شمعون، وائل أبو فاعور، أكرم شهيب، هادي أبو الحسن، مروان حمادة، بلال عبدالله، فيصل الصايغ، وراجي السعد، والنواب السابقون أيمن شقير، غازي العريضي، نعمة طعمة، صلاح حنين، انطوان اندراوس، عبدالله فرحات، هنري حلو، وأنطوان السعد، الوزير السابق ناجي البستاني.
كما حضر سماحة الشيخ نعيم حسن، رئيس مؤسسة "العرفان التوحيدية الشيخ نزيه رافع على رأس وفد من المؤسسة والمشايخ، بيار الضاهر، جوي الضاهر، تريسي شمعون، جميل بيرم، توفيق سلطان، وجدي أبو حمزة، رئيس محكمة الاستئناف الدرزية العليا ناصر الدين وعدد من قضاة المذهب الدرزي، وأعضاء مجلس إدارة المجلس المذهبي والمدير العام للمجلس، المدير العام للمؤسسة الصحية الدرزية في "عين وزين" الدكتور زهير العماد، واللواء الركن المتقاعد أمين العرم.
وحضر نائبة رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي الدكتورة حبوبة عون، مفوض الإعلام في الحزب صالح حديفه، مسؤول ملف التنمية الاجتماعية والاقتصادية الدكتور وئام أبو حمدان، مسؤول ملف الطبابة والاستشفاء الشيخ باسم غانم، عائلات وأهالي بلدة المختارة، وحشد من المشايخ والأباء والشخصيات.
وليد جنبلاط
وأكد وليد جنبلاط أن "المصالحة تكرست، رغم أصوات النشاز من هنا وهناك، والتي تصر على نبش القبور وتنسى صفحات العيش المشترك المجيدة للجبل والوطن"، وقال: "ليس هناك أغبى أو أسخف، لكن أخطر ممن ينادون بالفراغ، ولا يسهّلون موضوع الانتخابات الرئاسية".
وتوجه خلال استقباله البطريرك الراعي والشيخ أبي المنى، في المختارة، للحضور بالقول: "صاحب الغبطة، اسمح لي ببعض الملاحظات من مراقب بعيد، أولا نثمن عاليا كلّ الجهود المحلية والعربية والدولية التي تقومون بها من أجل حل معضلة الرئاسة. كما نحيّي عالياً تأييدكم للحوار، رغم العقبات المتعددة".
أضاف: "في أدبياتنا، كل الشهداء هم شهداء الوطن من دون تمييز من أي جهة كانت، وفي ما نسمعه من نظريات ليس هناك أغبى أو أسخف، لكن أخطر ممن ينادون بالفراغ، ولا يسهلون موضوع الانتخابات الرئاسية".
وتابع: "في نسخة أخرى من النظريات حول ما يسمى مواصفات الرئيس، كأن المطلوب أن يتعلم المجلس النيابي دروساً في النحت أو الخياطة، فعندما تريد الدول حل الأمور تحلها، وتذكروا مجلس الإدارة أيام المتصرفية، وتذكروا الاستقلال كما سنة 1985، والطائف وغيرها من المحطات، فكفى وضع عراقيل لتغييب الانتخابات".
وأردف: "يأتينا وزير الخارجية الإيراني حسن أمير عبد اللهيان، بالتزامن مع زيارة رجل "الترسيم" آموس هوكشتاين، وكلاهما صرحا بتأييدهما إنجاز الانتخابات الرئاسية، ممتاز، كيف؟ فهل يمكن ترسيم حقل بعبدا يا سيد هوكشتاين؟ وهل يمكن تسهيل الانتخابات يا سيد عبد اللهيان؟ وتحديد الصندوق السيادي الجديد مع الدول المعنية والقادة المحليين، سؤال مجدداً من مراقب بعيد".
وختم جنبلاط: "من جديد، نثمن جهودكم عالياً، ونحن على استعداد لأي مساعدة في مهمة الرئاسة الصعبة، ولكن ليست المستحيلة".
الراعي
بدوره، قال الراعي: "إن هذا اليوم تاريخي. لقد أتينا لكي نؤكد مرة أخرى على المصالحة التي قمتم بها مع البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وأردتما أن تشمل جميع اللبنانيين، فلا مصالحة من دون مصارحة".
أضاف: "لا يمكن أن يستمر لبنان في هذه الحال، وقد أصبح غريبا عن ذاته، ولم نقتد حتى الآن إلى حلول وطنية، والأمور تتفاقم".
ولفت إلى أن "دار المختارة تاريخية"، متوجّها إلى جنبلاط بالقول: "أنت حامي هذا التاريخ مع نجلك وتحافظ عليه، وعلينا أن نحمل هذا الهم. لقد بدأنا المسيرة معاً، ونكملها يداً بيد للعمل معاً من أجل وحدة الوطن وشفائه وأن تشمل المصالحة كلّ لبنان".
واستبقى جنبلاط، البطريرك الراعي وشيخ العقل والضيوف على مأدبة الغداء.