المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الأحد ٢٨ نيسان ٢٠٢٤ - 19 شوال 1445
سماحة شيخ العقل في خطبة الأضحى: كفى تحدّيًا وارتكاباً لجرائمِ تهديم الوطن

2023-06-28

رأى سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى انه "آن الأوانُ لنا في لبنان أن نعقدَ العزمَ على إنقاذ المركب من سوء المصير، وإنقاذُه لا يتحقَّق إلَّا بشدّ أشرعة الدولة، وباحترامِ الاستحقاقات الدستورية وانتخاب رئيسٍ توافقيٍّ قادر على قيادة مركب الوطن نحو شطّ الأمان"، معتبراً انه "اذا لم يبادرِ اللبنانيُّون أنفسُهم للمساعدة في عملية الإنقاذ فلا جدوى من تدخُّل الخارج منفرداً".
 
كلام سماحة الشيخ أبي المنى جاء في خطبة عيد الأضحى المبارك في بلدة شانيه، بمشاركة عدد كبير من المشايخ والفاعليات الروحية والاجتماعية والثقافية والأهلية ومن أعضاء المجلس المذهبي وإدارتي المجلس ومشيخة العقل.
 
وبعد أن أمّ سماحة الشيخ أبي المنى الصلاة، قال في الخطبة:
 
بسـم الله الرحمن الرحيم 
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاةُ والسلام على سيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين، ومن تَبِعَهُم بإحسان إلى يوم الدّين...
 
الأخوةُ المُصلُّون المؤمنون، أيُّها المسلمون الموحِّدون... 
 
قال تعالى في كتابه العزيز: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ". صدق الله العظيم
من هذا المنطلَقِ الإسلامي، ومن هذا القَصد الأسمى، ومن تلك الرسالة المُنزَلة، وبقلبٍ مُشبَعٍ ببركة الليالي العشر، مفعَمٍ بالأمل والرجاء، نتوجَّهُ إليكم صبيحةَ هذا اليومِ المبارَك بالتهنئة والدعاء معَ بلوغ اليوم العاشر من شهر ذي الحجَّة، وقد بلغ السعيُ تمامَه والحجُّ مَرامَه، فعسى أن نُوفَّقَ وإيَّاكم لبلوغ معنى العيد وإدراك غاية التوحيد، بصفاءِ قلبٍ وصحيح فكرٍ وعُلوّ هِمَّة.
 
إخواني الموحِّدين المؤمنين، 
نسألُ الله تعالى أن تكونَ هذه المناسبةُ الجليلة فسحةً للخير وسبيلاً للارتقاء والمسافرة في درجات الإسلام والإيمان ومحطةً للإصلاح على مستوى الذات والعائلة وعلى مستوى المجتمع والوطن والإنسانية، ليكونَ العيدُ عيداً حقيقيّاً، بمعناه الروحيّ، لا بمظهرِه الزمنيِّ وحسب. 
فلتكُنِ المناسبةُ باباً للدخول إلى حرمِ الله وللتحدُّثِ بنعمته سبحانه وتعالى في السرَّاء والضرَّاء، ولتكن عبادتُنا لله عبادةَ الأحرار، أي عبادةَ الحمد والشكر، لا عبادةَ التجّار، أي عبادةَ الرغبة، ولا عبادةَ العبيد، أي عبادةَ الرهبة، ولنتعاملْ مع الناس بمحبةٍ وأُخوّة، فنُحبَّ لهم ما نُحبُّ لأنفسِنا، لقول رسول الله (ص): "أَحِبَّ لأخيك ما تُحبُّ لنفسكَ"، ولنُضحِّ ما استطعنا على نيَّة الخير، لا على نيَّةِ الكسب والمنَّة والجاه، ولنُزكِّ من مالنا وعلمِنا ووقتِنا وطاقتِنا في سبيل مَن هم بحاجةٍ إلى عطائنا، أكانت تلك التزكيةُ لُقمةً للجائع، أم فُسحةً من اهتمام للبائس، أو كلمةً طيِّبة لليائس، أم معلومةً مفيدة للمريد، أم موعظةً حسنة للشاب التائه المتعطِّش لنيل العلم وكسب المعرفة وإدراك الحكمة.  
 
أيُّها الأخوةُ والأبناء الأعزّاء، 
في خضمِّ ما نعيشُه من تحدّياتٍ على أكثرَ من صعيد، لا يُمكنُنا أن نقفَ متفرجين مكتوفي الأيدي، فالصراعُ قائمٌ ودائمٌ في هذه الدنيا، صراعٌ في النفس وفي المجتمع وفي الوطن وفي العالم، صراعٌ ماديٌّ وفكريٌّ وعقائديّ، صراعُ القديم مع الحديث، والتقليدِ معَ التجديد، والثابتِ مع المتغيِّر، وصراعٌ في سبيل الشهوات والأهواء، وصراعٌ من أجل المصالح والأنانيات والتَّحديات، بالموقف والكلمة حيناً وبالمال والسلاح أحياناً، صراعٌ لا يلجُمُه أو يَحِدُّ منه سوى الاحتكامِ إلى سلطة العقل والحقِّ، لا سلطةِ الانفعال والقوّة، وقد أصبح العالَمُ اليومَ على قاب قوسين أو أدنى من حربٍ كونيَّة لا تُبقي ولا تذَر، في عصرٍ تدنّت فيه القيَمُ وارتفعت فيه الحريَّاتُ المتفلتةُ من ضوابط الوعي والمروءة والفضيلة ومكارم الأخلاق.
نداؤنا إلى القادة وأولي الأمر أن يرأفوا بأنفسهم وعائلاتهم أولاً، وبمجتمعاتهم وبالعالَم من حولهم ثانياً، فالرابحُ في المواجهة خاسرٌ في المحصِّلة العامة، والخاسرُ خاسرٌ أساساً، ونداؤنا إلى المسؤولين في وطننا أن يستفيقوا من سُبات المناكفات والمناورات، إن لم نقل من عَجاج المصادمات والمواجهات، وأن يتحمَّلوا مسؤوليتَهم تجاه الشعب والدولة، فالوطنُ كابٍ جريح والشعبُ كبشٌ ذبيح، يكاد يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ  لولا لبنانُ الانتشارُ والاغتراب ومنظمّاتُ الإغاثة، ولولا قناعةُ العديد من اللبنانيين المكتفين بقوت يومهم، والصابرين على مَضض، وكيف للناس أن يَصبروا أكثرَ ممَّا صبروا؟ وأن يتحمَّلوا أكثرَ ممّا تحمّلوا، وقد تبخَّرت أموالُهم وخابت ظنونُهم وطُويَت أحلامُهم، سوى قلَّةٍ قليلة ممَّن قرأوا باكراً مجريات الأمور وفقدوا الثقةَ بدولتهم قبل غيرهم فحيَّدوا أنفسَهم وخرجوا قبل أن يُحرَجوا، وهاجروا قبل أن يُهجَّروا، بينما بقيت غالبيةُ الشعب في النفق المظلم، ولم يُرَ لهذا النفقِ من آخر، ولكننا مؤمنون برؤية النور قريباً، ولو كانت الظلمات متراكمة: "... ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"، ونحن، بالرغم من تلك الظلُماتِ ما زلنا نقول: "ولا بدَّ للّيل أن ينجلي"، وما زلنا ندعو إلى خوض الصراع بثقة المؤمن الملتزم المقدام وإرادة الصابر المجاهد الهمام، فنقول ما قلناه يوماً للشباب:
وغَذُّوا الروحَ    بالإيمانِ وارقَـــوا
فبالإيمانِ    نجتـازُ   الصراعــا
ومِن زادِ الفضائل   خيـرُ   زادٍ‎
وخيرُ الناس  من للناسِ  جاعا 
فجــودوا بالنفــــــوسِ إذا   حُشِرتـُم
وَرُدُّوا الصاعَ بالمعروفِ صاعا
وكونـوا   كلَّمـا عَصَفَتْ   رياحٌ
رجالاً، سـاـدةً،  أُسُـداً،   قِلاعَــا
هذا هو مبدأنا وتلك هي رسالتُنا؛ رسالةُ العطاء والمواجهة في الحقّ، رسالةُ الجَمع والتآخي في الله، رسالةُ التضحية المستمَدَّةُ من روح الأضحى، رسالةُ النور في مواجهة الظلام، والأضحى من الضُّحى، والضُّحى إشراقٌ ونور. إن هي إلّا رحلةٌ نحو الحقِّ والحقيقة، بما فيها من ترفُّع عن صغائر الأمور، ومن خشوع وتواضع وتضحيةٍ بحظوظ النّفس من أجل الخير العام، وخروجٍ من الحيِّز الضيِّق إلى فسحة الحق الواسعة، ودعوةٍ إلى الخير والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكَر، وإلى مبادلةِ الجفاء والكراهية والنفورِ والتباغض بالألفة والمحبّة، والأقاويلِ المغرضة بالانكبابِ على العمل المفيدِ، وهذا هو لبُّ التضحية وتلك هي دائرة النور وجنّة الأمان والسعادة.
 
إخواني، أيُّها الموحِّدون المعروفيُّون،
وإذا كان هناك من تحيةٍ نرفعُها وإيَّاكم صبيحةَ هذا العيد فهي لإخواننا وأبنائنا الموحدين الدروز  المنتفضين كعادتهم في هضبة الجولان في وجه العدوان الغاصب المستكبِر دفاعاً عن أرضهم وحقوقهم، فتحيةً الى العمائم البيضاء والأيادي السمراء التي سطَّرتِ المواقفَ والبطولات، تحيةً الى الشيوخ والشباب الذين أفهموا المحتلَّ مرةً جديدة أن الموحِّدين ليسوا لقمةً سائغة وأنهم في لحظة غضبٍ وانتصار لكرامة الأرض إنما يستعيدون مشاهدَ الآباء والأجداد عبر التاريخ في التصدي لجحافل الجيوش والغزاة وتقديم أروع صورة عن جماعةٍ لا تهابُ الموت ولا تخشى سوى الله. ونحن اذ نَشدّ على أيديهم وندعوهم وإخوانهم الفلسطينيين، لمقارعة العدوان بالحقّ والدفاع عن هويتهم العربية وحقوقهم المسلوبة  إنما نقدّر أصواتَ النخوةِ والشجاعة المتلازمةَ وأصواتَ العقل والحكمة التي تسعى دائماً إلى تدبّر الأمور بأبصارٍ صحيحة وعقولٍ رجيحة، بعيداً عن المزايدات والادّعاءات.
 
إخواني المسلمين، أيُّها اللبنانيُّون، أيُّها المسؤولون
جميعُنا في مركبٍ واحدٍ تتقاذفُه رياحُ الشرق والغرب، وتتخطّفُه الأنواء والأهواء من هنا وهناك، وقد آن الأوانُ لنا في لبنان أن نعقدَ العزمَ على إنقاذ المركب من سوء المصير، وإنقاذُه لا يتحقَّق إلَّا بشدّ أشرعة الدولة، وباحترامِ الاستحقاقات الدستورية وانتخاب رئيسٍ توافقيٍّ قادر على قيادة مركب الوطن نحو شطّ الأمان، وإعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة وإداراتها، وتعزيز ثقة المجتمع الدولي بلبنانَ وقدرة أبنائه على النهوض به، وتحفيز رجال الأعمال للاستثمار فيه وخلق فرص العمل للشباب للحدّ من هجرتهم. وذلك كلُّه يحتاجُ إلى التفاهم والتوافق على خطة استراتيجية واضحة لا تثير هواجسَ أية جهة داخلية، وتؤكّد على متانة علاقات لبنان العربية والدولية، وتساعد في تعزيز قدرته على الصمود ومواجهة أي عدوانٍ بوحدة الصف والموقف والولاء الوطني وبتضامن جميع أبنائه على مختلف مودَّاتِهم ومذاهبهم ومشاربِهم.
إن لبنانَ التنوُّعَ في الوحدة، لبنانَ العيشَ الواحدَ الموحَّد، لبنانَ التاريخَ والتراثَ والحضارةَ المشرقيّةَ والعروبة، لبنانَ الانفتاحَ والجدارة، هذا الـ "لبنانُ" جديرٌ بالوفاء ويستحقُّ التضحيةَ لإنقاذه مما يتهدَّدُه من أخطارٍ تكادُ تقضي على المؤسسات، كما على القيَم الأخلاقية والوطنيَّة والاجتماعية، وإن لم يبادرِ اللبنانيُّون أنفسُهم للمساعدة في عملية الإنقاذ فلا جدوى من تدخُّل الخارج منفرداً. 
كفى استهتاراً وتحديّاً، كفى ارتكاباً لجرائمِ تهديم الوطن، اسلكوا سبيل الاعتدال والوسطية، واسعَوا بإخلاصٍ للتوافق والتراضي، أو على الأقلِّ للمواجهة الديمقراطية في أي استحقاق، وليكُنِ التنافسُ قائماً لأجل خدمة الوطن وإنقاذه لا لهدم ما تبقَّى من مؤسساتِه ومن اقتصادِه وهيبتِه، ولتحمِلْ هذه الأيامُ المباركة في ثناياها وثوانيها كلَّ الخير والأمل للبنانيين. إنَّه دعاؤُنا ورجاؤُنا، رجاءُ الأضحى الذي يتكرَّر كلَّ عام، ودعاءُ الاستعانة المرفوعُ لله سبحانه وتعالى في كلِّ آن، وهو وحدَه السميعُ المجيب، لا رجاءَ إلَّا به، ولا ملجأَ إلا إليه، له الحمدُ في كلِّ بَدءٍ وفي كلِّ ختام.
أضحى مبارَك، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.