المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الاثنين ٣٠ كانون الأول ٢٠٢٤ - 28 جمادي الثاني 1446
سماحة شيخ العقل في خطبة الفطر: لبنان دولة بِلا رئيس وبرلماناً غير متماسك وحكومةً ‏مكبَّلة وخللاً ميثاقياً

2023-04-21

رأى سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى ان ‏الدستورُ لا يُؤخَذُ بعين الاعتبار، ولا الاستحقاقاتُ تُحترَم، ولا الخطابُ السياسيُّ يُطمئِنُ ‏المواطنينَ؛ المقيمينَ والمغتربين، لِما فيه من استخفافٍ ومكابرةٍ وتحدٍّ وتهديد، ولا أموالُ ‏الناس وأرزاقُهم بمأمنٍ من السرقة والخَسارة، حتى أصبحنا في وضعٍ غيرِ طبيعيٍّ: دولةً ‏بِلا رئيس، وبرلماناً غيرَ متماسِكٍ، وحكومةً مكبَّلة، ومواقعَ حسَّاسةً شاغرةً في العديد من ‏الادارات ممَّا يُشكِّلُ خللاً ميثاقيَّاً وإداريّاً، وقضاءً متَّهماً بالانحياز والولاء السياسي، ‏وبعضُ القادةِ عاجزون أو مغلوبٌ على أمرِهم‎".‎
‎ ‎
كلام سماحة الشيخ أبي المنى جاء خلال خطبة عيد الفطر المبارك بعد أداء صلاة العيد ‏في مقام الامير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي في عبيه، بمشاركة عدد كبير من ‏المشايخ والفاعليات الروحية والاجتماعية وقضاة من المذهب ومديرين ورؤساء لجان ‏وأعضاء ومستشارين في المجلس المذهبي ومشيخة العقل‎. ‎

‎ ‎ومما جاء في خطبة سماحة شيخ العقل‎:‎
بسم الله الرحمن الرحيم ‏
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِ المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرينَ ‏وعلى أنبياءِ الله الأصفياء أجمعين‎.‎
‎ ‎
المشايخُ الأجلَّاء، معشرَ الإخوانِ الأعزَّاء، أيُّها المسلمونَ الصائمونَ عن الأهواءِ ‏والمُفطِرون على الطاعات والحقائق، أيُّها الأحبَّةُ‎...‎
أمّا وقد بلغنا غرَّةَ شهرِ شوّال، وحلَّ الفطرُ علينا وعلى سائر المسلمينَ عيداً سعيداً، فمن ‏الواجب أن نحمدَ الله سبحانه وتعالى على نعمة الشهر الفضيل الذي "أُنزل فيه القرآنُ هدًى ‏للناس وبيّناتٍ من الهدى والفُرقان"، والذي فُرض على المسلمين صيامُه شهراً كاملاً: ‏‏"صوموا لرؤيته وأفطِروا لرؤيته"، ليكونَ بمثابة فُسحةٍ وفرصةٍ لنيل الخيرات وتزكية ‏النفس بالصبر والالتزام والتآلف والتحابب وبذل الصدقات والارتقاء في معارج التوحيد ‏والإنسانية‎.‎
‎ ‎
لقد كُتبَ الصيامُ على المسلمين كما كُتب على الذين من قبلهم لعلّهم يتّقون، تأكيداً من الله ‏عزّ وجلّ بأن التقوى هي الغاية، وأن الصيام فريضةٌ تساعدُ على تحقيق هذه الغاية التي ‏أُنزلَ الكتابُ هُدىً لأصحابها: "ذلك الكتابُ لا ريبَ فيه هدىً للمتّقين"، ..."أولئك الذين ‏صدقوا وأولئك هم المتَّقون". فالصيام آيةٌ من آياتِ الله وفريضةٌ من فرائض الإسلام: "يُبيِّنُ ‏اللهُ آياتِه للناس لعلّهم يتّقون". تلك الآيةُ المُنزلَةُ والفريضةُ الموجِبةُ لا ريبَ فيها ولا ‏اعتراضَ عليها ولا استهتارَ بفائدتها، بل هي منحةٌ للمؤمن لتهذيب أخلاقه وترويض نفسه ‏واستشعار خالقه، وهي عُدّةٌ من عُدَدِ المسافرة في درجات معرفته، ومحطةٌ سنوية لمحاسبة ‏النفس وتزكيتِها وإعادةِ شحنها بطاقات الخير والامتثال وحسنِ الولاء وصِحةِ الاعتقاد ‏والعمل الصالح، وتلك هي التّقوى‎.‎
‎ ‎
في كلِّ عام يتجدّد الشهرُ المبارك، كما الفطرُ السعيد، ومعَ هذا وذاك تتجدّدُ ولادةُ الأمل ‏في النفوس وفي المجتمعات والأوطان، وكأنّ أبوابَ التوبة والاستغفار تُفتحُ واسعةً أمام ‏المؤمنين، والطرقَ إلى جنَّة الرحمن تُعبَّدُ بالطاعات والتضحيات والعبادات الصادقة، ‏وتُفرَشُ سُبُلُها بأصناف القيم وأنواعها؛ من التسامح والمحبة والرحمة والأخوَّة، ومن ‏الصبر والحِلم والزهدِ والقناعة والعدل والشجاعة الحقيقية؛ شجاعةِ التوبة والاعتراف، ‏وشجاعةِ المواجهة والتصدّي للأهواء والأنانيات والشهوات والأحقاد التي تدمِّر النفسَ ‏الإنسانيةَ وتَقضي على المجتمعات والأوطان‎.‎
‎ ‎
وكما يتردَّدُ الدعاءُ في كلِّ يوم وليلة من أيام وليالي شهرِ رمضانَ المبارك: "اللهمَّ أعطنا ‏خيرَ هذا اليومِ وخيرَ ما فيه، وٱصرِف عنَّا شرَّه وشرَّ ما فيه، اللهمّ اكتُبْ لنا فيه كلَّ خير، ‏واجعلنا من عبادك المغفورِ لهم، اللهمّ ٱرحمنا وارحمْ موتانا، اللهمّ تقبَّلْ منَّا الطاعات ‏وٱغفِرْ لنا الخطايا والسيئات"، كذلك يتردّدُ الدعاءُ صبيحةَ الفطر السعيد، دعاءً صاعداً من ‏القلوب: "اللهمّ أعطِنا اللطفَ والرحمة، وٱمنع عنّا البطشَ والنِقمة، وٱرزِقنا رزقاً حلالاً ‏بمعرفتك وطاعتِك، ولا تُزِغْ قلوبنا بعدُ إذ هديتَنا، وهَبَنا من لدُنك رحمةً، إنك أنت الوهَّابُ ‏وأنت أرحمُ الراحمين‎".‎

ليس هناك أجدرُ من المؤمنين بالدعاء والتوسُّل لعزَّته تعالى، ولا من رحابةٍ أوسعُ من ‏الشهر الفضيل وليلةِ القدر فيه ولا من هذا الصباح المبارك، وهذا المكانِ الطاهر، لنرجوَ ‏صادقين مخلصين أن يعمَّ الخيرُ والسلامُ والوئامُ مجتمعَنا اللبنانيَّ وأوطانَنا العربية ‏والإسلامية والعالم، وأن تزولَ تلك المآسي المتنقّلةُ من مكانٍ إلى مكان، بدءاً من فلسطينَ ‏الجريحةِ المغتصبة والقدسِ الشريف بمسجدِها الأقصى المبارَك وكنيسة القيامة فيها، ‏المحاصَرين بصلف العدوان وفجور الاحتلال، وصولاً إلى سوريا والعراق واليمن، ‏فالسودان حديثاً، وإلى كلِّ مكانٍ على خريطة العالَمِ تُقتَلُ فيه الحريةُ والكرامةُ الإنسانية، ‏شرقاً وغرباً، وتتغلَّبُ فيه قوى الشرِّ على قوى الخير، وتَنتشرُ أسلحةُ الدمار والإبادة، ‏وتسودُ فيه شريعةُ الظلمِ والاستبداد والقهر، وتتحوّلُ فيه لغةُ الجهاد والسلام إلى لغة ‏الإرهاب والإجرام‎.‎
‎ ‎
رجاؤُنا الصادقُ المنطلقُ من بركة العيد ورسالةِ التوحيد أن تنتصرَ الدعواتُ المناديةُ ‏بالمحبة والرحمة والسلام، بدلاً من انتصارِ منطق التحدّي والقوّة والاستكبار، وأن تتكلّلَ ‏بالنجاح مساعي التلاقي والتقارب التي تلوحُ في أفق المِنطقة، فتُعادُ الحقوقُ إلى أهلِها، ‏ويعودُ اللاجئون والنازحون إلى أوطانهم آمنينَ مكرَّمين، وترتفعُ عن كاهل لبنانِنا الحبيب ‏أثقالُ العُدوانِ من هنا والنزوح من هناك وتنكفئُ التدخلاتُ السلبيةُ من هنا وهناك، وتزولُ ‏الأسبابُ والذرائعُ من أمام المسؤولينَ المخلصين وتُغلَقُ الأبوابُ في وجه العابثينَ بالوطن ‏وأمنه وأمانه وٱقتصاده وكيانه وعيشِ أبنائه، وتلتقي الاراداتُ الصادقةُ للإصلاح والإنقاذ، ‏بتغليب مصلحةِ الشعب والوطن على أهواءِ الجماعات وأحلام المقامرين وأطماعِ ‏المستهترين بألم العِباد ووجع البلاد‎.‎
‎ ‎
إن كلَّ لبنانيٍّ مخلصٍ يتساءلُ متحسّراً: ألم يحُنِ الوقتُ لاستفاقة الضمائر؟ ألم يُدركِ ‏المتمسِّكون بمواقفِهم وأطماعِهم وأنانياتِهم أنّ البلادَ أصبحت على حافةِ اليأس والانهيار، ‏بل في هاوية الضَّياع والفشل؟ وأنَّ الناسَ على مشارفِ ثورةٍ شاملةٍ مُحقَّةٍ، إذ لم يعُد هناك ‏من قدرةٍ على احتمال التدهور الاقتصادي والمالي، ولم يبقَ لدى الناس من أملٍ بحكّامِهم ‏ودولتِهم، فلا الدستورُ يُؤخَذُ بعين الاعتبار، ولا الاستحقاقاتُ تُحترَم، ولا الخطابُ السياسيُّ ‏يُطمئنُ المواطنينَ؛ المقيمينَ والمغتربين، لِما فيه من استخفافٍ ومكابرةٍ وتحدٍّ وتهديد، ولا ‏أموالُ الناس وأرزاقُهم بمأمنٍ من السرقة والخَسارة، حتى أصبحنا في وضعٍ غيرِ طبيعيٍّ: ‏دولةً بِلا رئيس، وبرلماناً غيرَ متماسِكٍ، وحكومةً مكبَّلة، وادارات حسَّاسةً شاغرةً في ‏العديد من المواقع ممَّا يُشكِّلُ خللاً ميثاقيَّاً وادارياً، وقضاءً متَّهماً بالانحياز والولاء ‏السياسي، وبعضُ القادةِ عاجزون أو مغلوبٌ على أمرِهم، وبعضُهم يتصرَّفون بترَفٍ وكأنَّ ‏البلدَ في نعيم، أو كأنَّ لا قضيَّةَ للدول وللعالم إلَّا قضيتَنا، ولا همَّ عند المجتمع الدولي إلَّا ‏أن يُسرِعَ لاهثاً لمساعدةِ لبنانَ وإنقاذه، بينما يتلهّى كبارُ القومِ بإذلال صغارِه، ويعتادُ شعبُه ‏ومؤسساتُه للأسف على "صناديق الإعاشة"، وعلى دعم الأصدقاء والأشقّاء والمنظّمات ‏العالمية والدول ذاتِ المصالح‎.‎
‎ ‎
ولكي نكونَ منصِفين، لا يسعُنا إلّا أن نعبِّرَ عن تقديرِنا لبعض المبادرات من بعض ‏المسؤولين لمعالجة بعض القضايا في خضمِّ هذا الواقع المرير، أكان في هذه الوزارة أو ‏في تلك الإدارة، وفي هذه الجهةِ السياسيةِ أو تلك، إلَّا أنَّها تبقى عاجزةً عن تحقيق ‏الإصلاح المنشود والشِفاء الموعود، ولكنَّها تُبقي جُذوةَ الأمل متّقدة، فلا يتمكّنُ اليأسُ من ‏أهلِنا، ولا نَفقِدُ الثقةَ بأنفسِنا، ولا يغيبُ عن بالِنا أننا قادرون على النهوض متى أردنا، وأنّ ‏لدينا من المقوِّمات الفرديّة والجماعيّة ومن الطاقات والكفاءات ومن التراث والقيَم والإيمان ‏ما يكفي لاتّخاذ المبادرة واستعادة الدور وتصويب المواجهة‎.‎
‎ ‎
إنَّ العلاجَ يبدأ من الداخل قبل الاستعانة بالخارج، والإصلاحَ يُبنى على أُسسٍ ومبادئَ ‏ثابتة، لا على رمالِ السياسة المتحرِّكة، وأوَّلُ تلك الأُسسِ تعزيزُ الإيمان في القلوب ‏والعقول، وترسيخُ القيَم والفضائل في النفوس والعائلات، واحترامُ الشراكة الاجتماعية ‏والوطنية، والحفاظُ على مقوِّمات العيش الآمن المشترَك، واحترامُ الدستورِ، وصونُ ‏الحريات العامّةِ والخاصّة، واحترامُ الصيغة اللبنانيةِ القائمة على التنوّع في الوحدة وعلى ‏المواطَنةِ الحاضنةِ لهذا التنوُّع‎. ‎
‎ ‎
وكما في الوطن، كذلك في البيت التوحيديِّ الداخلي، حيث الجميعُ مدعوّونَ لجمع الشَّمل ‏ورأب الصَّدع أينما وُجِد، وللتواضعِ الفعليّ والتخلّي عن الأنا القاتلة، والترفُّعِ عن ‏الغرضيات والخلافات والمناكفات، والسعيِ الدؤوب لتقوية اللُحمة في الجسم الديني، ‏والعملِ معاً على مستوى النخبة من رجال الأعمال والشباب وأصحاب الطاقات المالية ‏والعلمية والثقافية والاجتماعية لإطلاق مسيرةِ نهوضٍ وإبداع، من خلال مبادراتٍ ‏استثمارية مفيدة ومشاريعَ إنمائيةٍ مُنتجة وبرامجَ اجتماعيةٍ مُنظَّمة، علماً أنّ مسيرةَ الألفِ ‏ميل تبدأ بخطوةٍ أُولى مدروسةٍ وجريئة، وكلُّنا أملٌ بأن تتضافرَ الجهودُ وتتّسعَ دائرةُ الأمل ‏والثقة والتعاون، في كلِّ عائلةٍ وقريّةٍ ومنطقة، وفي المجتمع بأسرِه، وفي كلّ الوطن، ‏فالاجتماع خيرٌ من الافتراق، والتكاملُ أنجعُ وأقوى لنجاح الأُمّةِ وازدهار الوطن، على ‏قاعدة القول المأثورِ شعراً‎:‎
‎"‎تأبى العِصيُّ إذا اجتمعنَ تكسُّراً ‏ وإذا افترقنَ تكسَّرتْ آحادا‎"‎
اللهمَّ أعِنّا على الاجتماع وجنّبنا الافتراق، وخُذ بأيدينا إلى ما هو أسمى وأرقى في ‏مسيرتِنا الروحيةِ والاجتماعية والوطنية، علَّنا نبلغُ العيدَ الحقيقيَّ والسعادةَ الحقَّة، ولك ‏الحمدُ اللهمَّ في كلِّ بَدءٍ وفي كلِّ خِتام، ولكم جميعاً أطيبُ المباركة والتهاني وأخلصُ ‏الدعاءِ والأماني‎. ‎
وكلُّ عامٍ وأنتم بخير، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه‎.‎