وصف سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى الواقع الراهن بـ"الصعب"، لافتا الى "ان الحلول ممكنة وتبدأ من احترام الدستور والتصدي معا لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية"، منوها بما يقدمه المجلس من "افكار واقتراحات من شأنها المساهمة في العلاج وتحسين الواقعين الاقتصادي والاجتماعي"، داعيا الى خارطة طريق "لوقف الانهيار المالي والاقتصادي والوقوف الى جانب الطبقات الفقيرة.
كلام سماحته ورد خلال تلبيته دعوة المجلس الاقتصادي والاجتماعي في مقره وسط بيروت لعقد "اللقاء التشاركي التفاعلي" حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي وحضره الى رئيس المجلس شارل عربيد: رئيس "الاتحاد العمالي العام" الدكتور بشارة الأسمر، نائب رئيس المجلس سعد الدين حميدي صقر وشخصيات اقتصادية واجتماعية منوّعة الى جانب وفد رافق شيخ العقل وفد ضم أعضاء المجلس ووفد من المشايخ أعضاء في المجلس المذهبي ومستشارين من مديريتي المجلس المذهبي ومشيخة العقل.
سماحة شيخ العقل
وجاء في كلمة سماحة الشيخ ابي المنى في اللقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّد المرسَلين، وعلى آله وصَحبه الطيِّبين، وعلى أنبياء الله الطاهرين.
قال تعالى في كتابه العزيز: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ". صدق الله العظيم (سورة المائدة، آ 2)
السادةُ والسيدات، أيُّها الأعزَّاء، يُسعدُني أن نلتقيَ اليومَ وإيَّاكم لنتعاونَ على البِرِّ والتقوى، وكم نحن بحاجةٍ إليهما في خضمِّ ما نعيشُه من أزمات وما يُعاني منه أبناؤُنا في هذا الزمان والمكان بالذات، ولعلَّ أجملَ عبارةٍ أبدأ بها كلمتي هي قولُ رئيس المجلس الأستاذ شارل عربيد في إحدى مداخلاته: "إنّ بلادنا صارت أرضاً لكنوز التّناغمِ الرّوحيّ، تلك الّتي صَنعت سِحرها مستخلصةً عسلَ الحكمة من أزهار الأديان المتنوّعة".
من عسل الحكمة هذا، ومن جمال هذا التناغم في التنوُّع نَبدأُ، فنُحيّيكم جميعاً حضرةَ السادة والسيدات أركانِ المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي رئيساً وهيئةً إدارية وأعضاءَ مُمثِّلين عن مختلف القطاعات، وحضوراً كريماً، ونشكر حضرةَ رئيس المجلس الذي تكرَّمَ وزملاؤُه الأساتذةُ الأعزّاءُ بزيارتنا في دار الطائفة لدعوتِنا إلى هذا اللقاء التشاركي التفاعلي في رحاب المجلس وبين أهلِه المحترمين، علَّنا نستطيع في الفسحة المتاحة لنا من الوقت وفي ما توفَّر لنا من معلومات وما خطر ببالنا من أفكار وما سيقدِّمه بعضُكم من تعقيباتٍ ومداخلات، من الإضاءة على مواضيعَ مهمَّة متعلِّقة بعمل المجلس ومَهامِه وبالواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، وما يُمكن أن نراه من حلول، وما يقتضيه الواجبُ من توجُّهٍ وعمل، والله وليُّ التوفيق.
ممَّا لا شكَّ فيه أن إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي كان خطوة إصلاحيةً أساسية كإحدى الخطوات المهمة التي أقرَّها اتفاقُ الطائف منذ ثلاثةٍ وثلاثين عاماً، إضافة الى مجلس الشيوخ الذي تلتقي فيه الطوائف الدينية والذي يحرّر المجلس النيابي من الانتماءات الطائفية، احتراما للدين ودوره الروحي والأخلاقي، واحتراما للدولة ودورها السياسي والإداري، بحيث يتكاملان في دور وطني انساني ينهض البلاد ويحفظ القيم الروحية والاجتماعية في المجتمع.
هذا المجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي نشعرُ كم نحن اليومَ بحاجة إليه وإلى دوره، وإلى تفعيل هذا الدور ليكونَ عاملاً أساسيَّاً مؤثِّراً في مسيرة النهوض بالدولة وتنظيم عملها، من خلال السعي إلى خلق المساحة المناسبة لتلاقي الأفكار، حول الاقتصاد والمجتمع، من قبل المجلس الذي يضم خبراءَ من كلّ أطراف الإنتاج، ممّا يساهم "في إنضاج مناخ مناسب للتّفكير الجماعيّ، المحكوم بمصلحة الدّولة واقتصادِها وشعبها"، بحسب رئيس المجلس.
من هذا التعريف المختصَر، ومن طبيعة الأدوار المتعدِّدة التي أُنيطت بالمجلس؛ من إبداء الرأي بالمشاريع والاقتراحات، إلى تنمية الحوار والتعاون والتنسيق بين الإدارات، إلى مراقبة الاتجاهات والتطورات في مجال اختصاصه واقتراح خطط التأقلم معها، من كل ذلك ننظر إلى مجلسكم بعين الأمل، راجين أن تسمح الظروف بذلك وأن تتلاقى النوايا والإرادات على المصلحة العامة للدولة، انطلاقاً من احترام الدستور والقانون ومن تحمُّل المسؤولية في الانتقال من دولة المحاصصة والتسويات والمناكفات وتنازع السلطات إلى دولة المواطنة والسيادة والاستقلال وتكافؤ الفرص وتكامل السلطات والشراكة الفعلية بين المؤسسات المتنوِّعة وبين المكوِّنات الوطنية المختلفة تحت عنوان أساسيٍّ واحدٍ هو "بناءُ الدولة".
لقد دَعيتم مراراً إلى عقلنة مفهوم التغيير والإصلاح بدءاً من تطوير قانون الانتخابات وسَنّ التشريعات وصياغة سياسة اجتماعية واقتصادية عادلة وفعَّالة، إلى ضرورة مكافحة الآفات ومعالجة القضايا المتراكمة بعيداً عن المطالب والحصص والمناكفات، وإلى وضع جدولٍ زمني للإصلاحات والإنجازات المطلوبة، وهذا جميعُه ما نشاطرُكم الرأيَ به وما ندعو معكم إليه، وما نرى وإيَّاكم أنه قاعدةُ الانطلاق لبناء الدولة الحديثة.
من الطبيعي والبديهيّ القول إنّ لغة الاقتصاد هي لغةُ السّياسة في عالم اليوم، ولكن لا بدّ من الاعتراف بالحقيقة المُرَّة، فقد كان للأزمات المتلاحقة، المحلية والإقليمية والعالمية الأثرُ الكبير على هذا الاقتصاد وعلى الواقع الاجتماعي والسياسي والأمني والبيئي. هذا الواقع الذي يعاني أصلاً من تشوُّهات دراماتيكية ناتجة عن جملة عوامل، تبدأ من عدم وجود رؤية شاملة ومنهجية لإدارة الدولة، ومن إهمال كبير للقطاعات وتحوُّل ِلبنان الى دولة استهلاكية بامتياز تموِّلُها البنوك، ومن قطاع مصرفي يدفع فوائد خيالية على الودائع، ومن تراكم الدين الداخلي والخارجي لتمويل الإنفاق على قطاعاتٍ أساسيَّة يُفترض بها ان تكونَ الرافد الرئيسيَّ لخزينة الدولة، وعلى رأسها قطاعُ الكهرباء، ولا تتوقّف تلك العوامل عند استمرار المحاصصة وتفشّي الفساد وتوسّع نطاقه، وعند قصور الدور الرعائي للدولة في كلٍّ من المجال الاجتماعي والصحي والتربوي والانمائي.
إلى ذلك، فقد جاءت الأزماتُ اللاحقة المختلفة لتفاقم الوضع، من النزوح السوري الى لبنان وأثره الكبير على الاقتصاد اللبناني، وتشكيله ضغطاً كبيراً على البنية التحتية لقطاعات التعليم والطاقة والمياه والسكن وسواها، إلى جائحة كورونا وتداعياتها الضخمة وتأثيرها السلبي على القطاعات الحيوية، وبالتالي على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي، ناهيك عن الحرب الروسية الأوكرانية التي انعكست تداعياتُها على دولتِنا المُنهَكة وأدّت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة بنسبٍ قياسية.
ولا يَخفى الأمرُ على أحد أن سلسلةً من التداعيات المؤثِّرة ألقت بثقلِها على هذا الواقع المُتعَب؛ من تراجع احتياطات المصرف المركزي وانعكاساته على توقف سياسات الدعم للمحروقات والغذاء في ظل غيابٍ ملحوظ لسياسات الحماية والرعاية الاجتماعية، إلى انهيار العملة الوطنية وضآلة فرص العمل، إلى انخفاض الودائع العربية والدولية، وتقلُّص تحويلات المغتربين، إلى عدم إيفاء المانحين الدوليين بالتزاماتهم حَيالَ لبنان وربطِها بالإصلاحات البنيوية.
كلُّ ذلك الواقعِ المأزوم وضعَ لبنانَ في غرفة العناية الفائقة، وأكّد أن بلدنا مريضٌ ويحتاج إلى علاج، لنتساءلَ إزاء ذلك معَ المتسائلين، ولو كنَّا نعرف الجواب: هل يصُحُّ أن يكونَ العلاجُ بالمسكّنات؟ أم بالغذاء السليم والحذر والانتباه والحركة المدروسة والدواءِ الناجع والتزام الوصفات العلاجية النافعة؟ أليس من الواضح أنَّ ممارسةَ السّياسة عندنا أصبحت في وادٍ والمطلوبَ في وادٍ آخر، وكأنَّ السياسيين لا يهمُّهم سوى تغليب مصالحِهم الشخصية على حساب المصلحة العامّة؟
جاء في عدد خريف 2021 من تقرير البنك الدولي المعنوَن "المرصدُ الاقتصادي للبنان: الإنكارُ الكبير": "إنَّ الأزمة الاقتصادية في لبنان هي واحدةٌ من أشدِّ عشر ازمات، وربما أشد ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وباتت تُعرِّضُ للخطر الاستقرارَ والسلمَ الاجتماعيَّ في البلاد على المدى الطويل، فقد أفلس نموذجُ التنمية الاقتصادية للبنان الذي ازدهر بفضل تدفقاتٍ وافدةٍ كبيرةٍ لرؤوس الأموال ودعمٍ دولي في مقابل وعودٍ بإجراء إصلاحات، علاوةً على ذلك، يحدث الانهيار في بيئة جيوسياسية تتّسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار، الأمر الذي يزيد من إلحاح الحاجة إلى معالجة هذه الأزمة الحادة".
في تصويرٍ دقيق للواقع وأسبابه وتداعياته، يرى التقرير "أن حجمَ ونطاق الكسادِ المتعمّدِ الذي يشهدُه لبنانُ حالياً يؤديان إلى تفكك الركائز الرئيسة لنموذج الاقتصاد السياسي السائد في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية. ويتجلَّى هذا في انهيار الخدمات العامة الأساسية، واستمرار الخلافات السياسية الداخلية المُنهِكة، ونزيف رأس المال البشري وهجرة الكفاءات على نطاق واسع. وفي موازاة ذلك، تتحملُ الفئاتُ الفقيرة والمتوسطةُ العبءَ الأكبرَ للأزمة، وهي الفئاتُ التي لم يكن النموذجُ القائمُ يُلبِّي حاجاتِها أصلاً".
يستنتج التقرير أنَّه لا بدَّ من "الشروع بإصلاح شامل ومنظَّمٍ وسريع في بعض القطاعات، وعلى الأخصّ "في قطاع الكهرباء كخطوة بالغة الأهمية لمعالجة التحديات الطويلة الأمد والمعقَّدة لهذا القطاع الذي يبقى في صميم مسار الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي في لبنان... إضافة إلى ذلك، يحتاج لبنان إلى تكثيف الجهود لضمان تقديم مساعدات الحماية الاجتماعية للفقراء والأسر الأكثر عُرضةً للمخاطر والتي ترزحُ تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المستمرة".
وفي معرض التعقيب على التقرير، قال ساروج كومار جاه، المديرُ الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي: "إن الإنكار المتعمّد في ظل الكساد المتعمّد يُخلِّفُ أضراراً طويلةَ الأمد على الاقتصاد والمجتمع... وعلى الحكومة اللبنانية أن تمضي قدماً بشكل عاجل نحو اعتماد خطة لتحقيق الاستقرار والتعافي المالي الكلي شاملةٍ ومنصفةٍ وذاتِ مصداقية، وتسريع وتيرة تنفيذها إذا كان لها أن تتفادى دماراً كاملاً لشبكاتها الاجتماعية والاقتصادية، وأن تُوقِفَ على الفور نزيفَ رأس المال البشري الذي لا يُمكن تعويضُه".
هذا هو الواقعُ الحقيقي والمؤلمُ الذي يحتاجُ إلى قرار أعلى وإلى تدخُّلٍ واختصاص، وقد قدّمتم من أجل ذلك العديدَ من الاقتراحات التي من شأن الأخذِ بها المساهمةُ في العلاج وتحسينِ الواقعَين الاجتماعي والاقتصادي، والتي يأتي في مقدَّمتها اقتراحُ إصلاحِ أنظمة التقديمات الاجتماعية، والتوظيف، والتعويضات، بالإضافة إلى إعادة النظر بالضرائب وتنظيمِها تصاعديَّاً لتطالَ الطبقاتِ الأكثر قدرة، ودراسةِ الواقع الاجتماعي وحاجات القطاعات المختلفة: الصناعية والزراعية والتجارية والسياحية والأشغال العامة والتأمين وغيرها، لكنَّنا نسألُ أين أصبحت كلُّ تلك الاقتراحات في ظلِّ ما نشهدُه من تجاذبات؟
لقد سلَّطتم الضوء على الكثيرِ من القضايا وبلورتم العديدَ من الأفكار المفيدة التي يعرفُها ويُفكِّرُ بها الكثيرُ من أُولي الشأن والدراية في بلادنا، ولكن ما يجعلُها مَوضعَ اهتمامٍ وأهميَّة هو كونُها صادرة عن مجلسٍ رسميٍّ، ممَّا يُحتِّم على الدولة الأخذَ بها بجديّة، والدولة مسؤولةٌ وصاحبةُ قرار، ولا يجوز أن تُهملَ ما أنتجته عقولُ الاختصاصيين، وإلَّا تكونُ سائرةً على غير هدى، بل عليها أن تضعَ الأفكار الصائبةَ موضعَ التنفيذ، وأقلُّ ما يمكنُها فعلَه لمواجهة الواقع الحالي المتردّي، على المستوى الاجتماعي، هو رسمُ خريطة طريقٍ لوقف الانهيار المالي والاقتصادي والبيئي، والوقوف إلى جانب الطبقات الفقيرة، وتقديم مساعدات منظَّمة ومباشرة للأسر الأكثر فَقراً، وصولاً إلى برنامج تكافل اجتماعي وإجراءات داعمة لتحفيز الإنتاج وخفض نسبة البطالة، مع ما يتطلَّبُه ذلك من استعانة بالصناديق الدولية الداعمة بعد استعادة ثقتها بالدولة وإجراءاتها، ممّا يُرسِّخ تالياً ثقةَ اللبنانيينَ بدولتِهم.
ممَّا لا شكَّ فيه أننا نواجهُ تحدياتٍ ضخمة، ولا يمكنُنا إلقاءَ المسؤولية على جهةٍ دون أُخرى، إنَّما على كلِّ مسؤولٍ أن يتحمَّلَ تَبِعةَ ما وصلت إليه البلاد بحسب موقعِه ودوره وارتباطاته المعرقلة أو المسهِّلة للتقدُّم، لكنَّنا نؤمن معكم بأنّ تلك الأزمات قابلة للحلّ، ونُضيف أن ذلك ممكنٌ فقط من خلال احترام الدستور والتصدّي معاً لمعالجة الواقع الراهن بمنع حصول الفراغ الرئاسي كما يحصلُ في معظم الأحيان، ومنع عرقلة تأليف الحكومة المنسجمة والقادرة على التعاطي الإيجابي مع الملفَّات الإصلاحية المطلوبة، ومن خلال تأكيد احترامِ الطوائف وما تمثِّلُه من قيمةٍ روحية وأخلاقية عالية، وتأكيد احترام ِالدولة وما تمثِّلُه من سلطةٍ مدنيةٍ وطنيةٍ عادلة، وبالتالي من خلال العمل معًا على توحيد الرؤية الوطنية وتوجيه الرّأي العامّ، وحثّ المجتمع على رفض الفساد، وعلى المشاركة في بناء الدّولة.
لقد تعوَّدنا على الشكوى والتعبير عن امتعاضنا من الواقع، أفلا يجدرُ بنا أن نَحثَّ على متابعة ما بدأناه من إجراءاتٍ إصلاحية، وألَّا نفقدَ الأملَ بقدرتنا على الإنقاذ؟ بما يتطلّب كلُّ ذلك من انفتاحٍ فكريّ وتطوُّرٍ علميّ ومواكبة عصرية وواقعية، ومن تحديثٍ للقوانين من أجل ضمان اقتصادٍ مزدهر وتأمين شبكة أمانٍ وحمايةٍ اجتماعية وتنظيم كلّ ما يتعلَّق بشؤون العمل والسّكن والتّربية والطّبابة والإبداع.
الصورة تبدو قاتمة، كما أشرنا، ولكن الحلول ما تزال ممكنة، مع توافر النوايا الطيبة والعمل الجادّ، وذلك يبدأُ أوّلاً: بتوفير الحماية الاجتماعية الشاملة، وباعتماد مبادئ الحوكمة الرشيدة في صوغ السياسات الرسمية وتنفيذها، وبإصلاح حقيقي في إدارات الدولة ومؤسساتها، وباعتماد أسسٍ علمية للتوظيف قائمة على دراسة دقيقة وشفافة للحاجات الفعلية، بما فيها إعادة النظر بالوظائف العامة، مع مراعاة التطور الإداري والتكنولوجي وما يحتمه من استحداث وحدة لـ "البحث والتطوير" Research & Development في كافة إدارات الدولة ومؤسساتها، إضافةً إلى دعم القطاعين الصناعي والزراعي بما يخفف من الاستيراد ويخلق فرص العمل، وإلى خطواتٍ أُخرى مهمَّة وضرورية، كاتّخاذ ما يلزم من اجراءات تشريعية واجرائية لضمان استخراج النَّفط والغاز واستثمارهما محلياً ودولياً على نحو مستدام وشفاف بعيداً من المحاصصة والفساد والهدر، واستكمال خطوات إعادة النازحين من الأخوة السوريين الى المناطق الآمنة في وطنهم، وإعادة أموال المودعين بما لهذا الأمر من أثر ايجابي على اعادة الثقة بالدولة وتعزيز الاستقرار الاجتماعي وتحفيز الدورة الاقتصادية.
إلى ذلك، لخَّص أحدُ خبراء البنك الدولي ما هو مطلوب بخمس نقاط: ضبطُ الحدود الجمركية- توحيدُ سعر الصرف – تفعيلُ الجباية – مكننةُ القطاعاتِ والإدارات –والشفافية، أمَّا إذا ما دخلنا في التفاصيل، فيمكن أن تُضاف إلى تلك الحلولِ المطلوبة اقتراحاتٌ تتعلَّقُ باعتماد الطاقة المتجدِّدة وأهميتِها في حماية الاقتصاد وفي الحدّ من التدهور البيئي، وكذلك بأهمية تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبتأكيد الانفتاح على العالم وتعزيز التعاون الجدِّي والمُتقدِّم مع الدول العربية، وأخيراً، وليس آخراً بالحوار الداخلي الشفاف بين جميع المكوِّنات بغية خلق مناخٍ إيجابي يساهم في إرساء الاستقرار على الصعيدين السياسي والأمني، ما ينعكس خيراً على الصعيد الاقتصادي وجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية.
إنها مسؤوليةُ الجميع، وبالنسبة لنا، فإنَّ التحديات الاجتماعية والمعيشية تحتاجُ، بالإضافة إلى الحلول المذكورة وقبل كلِّ شيء، إلى التضامن الاجتماعي وعيش العدالة الاجتماعية في بيوتنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة، وعلى قاعدة قول الإمام علي (ع) : "ان الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقواتِ الفقراء, فما جاع فقيرٌ إلّا بما مُتِّع به غنيّ، والله تعالى سائلُهم عن ذلك"، وكذلك على مستوى الجمعيات الأهلية، المحلية والاغترابية، كما تحتاجُ إلى القناعة وضبط المصروف والعودة إلى الأرض والتعامل مع الواقع بواقعية، وإلى تقوية الإيمان في القلوب عوضاً عن الصراخ والشكوى باستمرار، فاللهُ تعالى يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وهو نعم النصيرُ المعين.
وإنَّها مسؤوليةٌ أخلاقية، تزداد أهميةً كلمَّا ازدادت التحدياتُ والصعاب، وأنتم في المجلس أهلٌ لها وبابٌ من أبواب الأمل المرتجى للخروج من واقع الأزمة و"الإنكار المتعمَّد" إلى واقعٍ الاعتراف الواقعي والتخطيط الجدِّي للإنقاذ، ذلك لأنّ متطلَّباتِ الإصلاح والتعافي، وإن كانت تبدو كثيرةً ومتشعبة، لكنَّها تُشكِّلُ السبيلَ الأوحدَ للحدِّ من الانهيار وإعادة تصويب المسار، وهذا يقتضي قبل كل شيء وجودَ نوايا مخلصة من أصحاب القرار لإحداث التغيير المنشود الذي يُفتَرَضُ أن يبدأَ من الداخل، كما جاء في الكتاب المُنزَلِ الشريف: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم". صدق اللهُ العظيم. (سورة الرعد:، آ 11)
وفَّقكم الله لما فيه خيرُ الوطن وخيرُ المواطن، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.
كلمة عربيد
وكان بدأ اللقاء بكلمة الدكتور عربيد، رحب في مستهلها بسماحة الشيخ ابي المنى، وقال:
"مع كل درجة من تدرجات هذه الأزمة الطويلة يبحث اللبنانيون عن وطنهم مجددا، بين الخلافات والأحقاد وصراعات السلطة والسطوة والمصالح. يستنجدون بما أمِلوه من مسؤولية مجسدةٍ لخدمة هذا الوطن، بقادة البلاد الذين سلمهم الناس مصائرهم، فأودوا بها وبهم في التهلكة.
وفي كل مرة، ومع كل خطوة، ننحدر فيها على هذا السلم المديد، يمد الوطن يده إلى أبنائه، ذخره البشري الذي أنشأه شبراً فشبر، وفكرةً ففكرة. يطلب منهم الخلاص من أنانياتهم، والاتحاد حوله، للخروج من ماضٍ مظلم نحو مستقبلٍ مشرق لايزال ينتظر، ولازال فيه متسعٌ من الأمل لمن سيأتون".
واشار عربيد الى أنه مع "دهم الاستحقاقات والضرورات التي تحمل معها الآمال والمخاطر على حد سواء، نلوذ بالعقل وبالمحبة. تقول الحكمة إنه إذا عمت الفوضى، فعليك أن تحتمي بعقلك لكي تنجو.
" ورأى عربيد "أن لبنان يحتمي بالعقل، عقل الحكمة المعتقة بين أحجار البيوت الدافئة في جبالنا الباردة. تلك المَلَكة التي كانت في أساس تكوينه، حين خرج للعالم وحدةً حضارية لا وحدةً سياسيةً فحسب. كان لبنان في تكوينه الأول، ونؤمن أن كذلك سيبقى، واحة جمال وطاقة نور، ومصدر إشعاع حضاري لا ينطفئ".
وتوجه الى أبي المنى: "أنتم في قلب جبله جبلة وعي وانتماء، وركن وحدة وصفاء، ودرب أخوة يمشي إليه اللبنانيون جميعا، في المصاعب والملمات.
وتابع: ترحيبنا بكم، لوذ بجمال لبنان، ونقاوة نواته الصلبة التي لا تنكسر، صوانية المعدن، مرمرية الملمس. هذه هويتنا الواحدة التي حمت لبنان إلى الآن، وبها نستمسك لنحميه على الدوام".
وإذ أسف عربيد "لأن ظروف الناس وأحوال البلد تتعقد، مع كل استحقاقٍ فائت، أو فرصة مضيعة"، قال:" نحن في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ننظر إلى هذه الأحوال والفرص، وفي بالنا أولاً اقتصاد الناس. هذا المفهوم الذي يشمل اقتصاد المؤسسات والحال الاجتماعية، ولا يستثني الدولة ومؤسساتها".
وأشار الى "أن هذا البيت اللبناني كان على الدوام براقا، نهجس اليوم بحمايته واستعادة زينته، من الذين أضاعوا بريقَ البيت، بتكرار قصة ابريق الزيت. قصة الخلافات والأحقاد والتشفي و"فش الخلق" بالوطن والمواطن".
وأكد عربيد "أن المرحلة تحتاج إلى الحكمة التي وحدها تفتح الأبواب المؤصدة أمام الحوار والحلول، ولأن العقل الحكيم والحوار البناء يخرجنا من هذه الفوضى، قررنا في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ان نستكمل لقاءاتنا مع سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الدكتور سامي ابي المنى، فهو رجل الحوار والحكمة، صاحب الكلمة الجامعة".
وأردف: "ها نحن اليوم نجتمع لنحمل سوياً الهم الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والتربوي، وقد كان لسماحتكم دور في لجنة التربية منذ ثلاثة أعوام عندما طرحنا الصوت في مجلسنا هذا، في لقاءات تشاركية وتفاعلية لتطوير المناهج مع أركان المؤسسة التربوية. وزارة التربية ولجان الأهل، كذلك نقابات المعلمين والمدارس الخاصة والرسمية".
ولفت الى أنه "منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، تعقدت الأمور وسادت المآسي، وباتت تنعكس في تفاصيل حياتنا اليومية، لتصبح مركبة وموصولة على عامل أساس، هو انهيار في سعر صرف الليرة وغلاء معيشة وزيادة الفقر وفقدان تام للحماية الاجتماعية بمختلف ابعادها الصحية والتربوية والغذائية، وزاد من استفحال كل ذلك تعثر الاقتصاد بتعثر دور الدولة من ناحية، وبتفاقم الضغوط على مؤسسات القطاع الخاص من ناحيةٍ ثانية، وسط تخلٍ خارجي عن تقديم المساعدة المطلوبة بإلحاح، تماشياً مع تخلٍ داخلي أكثر فداحةً عن إيفاء مسؤولياتنا الوطنية بالإصلاح وتفعيل حكم القانون".
وأشار الى "أن المجلس قدم خلال الأزمة الحالية وقبلها حلولاً للكثير من مشكلاتنا، ليست آخرها الورقة التشاركية لإعادة توجيه الدعم نحو مستحقيه. ثم إطلاق زخم جديد منذ تموز الفائت مع الكتل النيابية بهدف بلورة ورقة جامعة تساهم في وقف الأزمة وتسرع الخروج منها". وقال:" كنا نتطلع ان تتم الاستحقاقات الدستورية بسلاسة لتكون فرصة للنهوض وذلك بعد إنجاز الانتخابات النيابية في أيار الفائت".
أضاف: "والآن، كما على الدوام، نستمر في المجلس بتركيز جهودنا وامكاناتنا وطاقاتنا ووضعها في تصرف السلطة التنفيذية، وننمي جهوزيتنا بصورة دائمة للمساعدة على صياغة آراء في الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تستند إلى ركيزتين أساسيتين، الخبرة العلمية والمعرفية، والتجارب العملية العميقة لممثلي القطاعات والنقابات والخبراء بكل أطيافهم".
وختم عربيد: "أن اللبنانيين يتطلعون اليوم إلى إعادة تكوين سلطة جديدة ورئيس جديد لوضع رؤية للخروج من الازمة واستعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها من كافة أبناء المجتمع اللبناني المقيمين والمغتربين. كما يضعون في أول اهتماماتهم إلى جانب وقف النزيف الاقتصادي والبشري، الحفاظ على المجتمع التعددي الذي لا تقوى فيه جماعة على أخرى. ويتطلعون إلى إدارة سياسية أكثر مسؤولية، تساهم في تخفيف همومهم اليومية وتحاكي تطلعاتهم لبناء مستقبل يحلمون به، لهم ولأولادهم من بعدهم. انهم ينتظرون تشكيل سلطة تعيد لهم ما فقدوه من ثروات مادية ومعنوية، تعيد لم شملهم بعد أن تشتتت العائلات واصبحت الهجرة كابوس يطرق كل باب".
حوار
ثم جرى حوار مع سماحته حول عدة مواضيع مطروحة وردّ على أسئلة الحضور، مشدداً على الموافقة على شعار " صرخة حوار" الذي أطلقه أحد المشاركين ومؤكداً على أحقية مطالب معلمي القطاع الخاص والمتقاعدين في هذا القطاع وضرورة انشاء لجنة تضع خطة لأولويات الإصلاح حيال التضخم في التشريعات.
ومشيراً الى ثوابت الدفاع عن الأرض وتعزيز ثقافة التصدي للعدوان وعلى رأس ذلك العدوان الإسرائيلي خصوصاً اليوم إزاء إنجاز الترسيم وما نأمله من بدء التنقيب على الثروة النفطية والدفاع عن ثروات لبنان الطبيعية.
معتبراً ان دور رجال الدين ليس التدخل بشؤون الدولة، وانما مخاطبة المسؤولين حيال قضايا وطنية أساسية ومن اجل الحفاظ على القيم المجتمعية والأخلاقية وصونها.
واكد سماحته "دعم تحقيق مشروع اللامركزية الادارية شرط ألاّ يحرم أي منطقة من أي ثروة وطنية، ويشكل مدخلا للإصلاح والنهوض بالدولة تنمويا والاستفادة من الثروات الطبيعية وتعزيز دور المؤسسات"، معتبرا ان "استعادة اموال المودعين جزء اساسي من اعادة الثقة داخليا وخارجيا بالدولة"، وإذا ما تحمّل المودعون الانتظار ولو طويلاً، لكن لا يجوز أن يتحمّلوا خسارة أموالهم.
كذلك شدد سماحته على " الحوار العقلاني "لحماية العيش المشترك بالاحتكام الى العقل للوصول الى النتائج المرجوّة".
وختاما دوّن سماحته كلمة في السجل الذهبي للمجلس.