المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الأحد ٢٢ كانون الأول ٢٠٢٤ - 20 جمادي الثاني 1446
سماحة شيخ العقل من على منبر المجلس الاقتصادي الاجتماعي: الواقع صعب والحلول ممكنة تبدأ من احترام الدستور والتصدي معا لمعالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية

2022-11-09

وصف سماحة شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى الواقع الراهن ‏بـ"الصعب"، لافتا الى "ان الحلول ممكنة وتبدأ من احترام الدستور والتصدي معا لمعالجة القضايا ‏الاقتصادية والاجتماعية"، منوها بما يقدمه المجلس من "افكار واقتراحات من شأنها المساهمة في ‏العلاج وتحسين الواقعين الاقتصادي والاجتماعي"، داعيا الى خارطة طريق "لوقف الانهيار المالي ‏والاقتصادي والوقوف الى جانب الطبقات الفقيرة.‏
كلام سماحته ورد خلال تلبيته دعوة المجلس الاقتصادي والاجتماعي في مقره وسط بيروت لعقد ‏‏"اللقاء التشاركي التفاعلي" حول الواقع الاقتصادي والاجتماعي وحضره الى رئيس المجلس شارل ‏عربيد: رئيس "الاتحاد العمالي العام" الدكتور بشارة الأسمر، نائب رئيس المجلس سعد الدين حميدي ‏صقر وشخصيات اقتصادية واجتماعية منوّعة الى جانب وفد رافق شيخ العقل وفد ضم أعضاء ‏المجلس ووفد من المشايخ أعضاء في المجلس المذهبي ومستشارين من مديريتي المجلس المذهبي ‏ومشيخة العقل.‏

سماحة شيخ العقل
وجاء في كلمة سماحة الشيخ ابي المنى في اللقاء:‏
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّد المرسَلين، وعلى آله ‏وصَحبه الطيِّبين، وعلى أنبياء الله الطاهرين.‏
قال تعالى في كتابه العزيز: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ". صدق ‏الله العظيم (سورة المائدة، آ 2)‏
السادةُ والسيدات، أيُّها الأعزَّاء، يُسعدُني أن نلتقيَ اليومَ وإيَّاكم لنتعاونَ على البِرِّ والتقوى، وكم نحن ‏بحاجةٍ إليهما في خضمِّ ما نعيشُه من أزمات وما يُعاني منه أبناؤُنا في هذا الزمان والمكان بالذات، ‏ولعلَّ أجملَ عبارةٍ أبدأ بها كلمتي هي قولُ رئيس المجلس الأستاذ شارل عربيد في إحدى مداخلاته: ‏‏"إنّ بلادنا صارت أرضاً لكنوز التّناغمِ الرّوحيّ، تلك الّتي صَنعت سِحرها مستخلصةً عسلَ الحكمة ‏من أزهار الأديان المتنوّعة".‏
من عسل الحكمة هذا، ومن جمال هذا التناغم في التنوُّع نَبدأُ، فنُحيّيكم جميعاً حضرةَ السادة ‏والسيدات أركانِ المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي رئيساً وهيئةً إدارية وأعضاءَ مُمثِّلين عن ‏مختلف القطاعات، وحضوراً كريماً، ونشكر حضرةَ رئيس المجلس الذي تكرَّمَ وزملاؤُه الأساتذةُ ‏الأعزّاءُ بزيارتنا في دار الطائفة لدعوتِنا إلى هذا اللقاء التشاركي التفاعلي في رحاب المجلس وبين ‏أهلِه المحترمين، علَّنا نستطيع في الفسحة المتاحة لنا من الوقت وفي ما توفَّر لنا من معلومات وما ‏خطر ببالنا من أفكار وما سيقدِّمه بعضُكم من تعقيباتٍ ومداخلات، من الإضاءة على مواضيعَ مهمَّة ‏متعلِّقة بعمل المجلس ومَهامِه وبالواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، وما يُمكن أن نراه من ‏حلول، وما يقتضيه الواجبُ من توجُّهٍ وعمل، والله وليُّ التوفيق.‏
ممَّا لا شكَّ فيه أن إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي كان خطوة إصلاحيةً أساسية كإحدى ‏الخطوات المهمة التي أقرَّها اتفاقُ الطائف منذ ثلاثةٍ وثلاثين عاماً، إضافة الى مجلس الشيوخ الذي ‏تلتقي فيه الطوائف الدينية والذي يحرّر المجلس النيابي من الانتماءات الطائفية، احتراما للدين ‏ودوره الروحي والأخلاقي، واحتراما للدولة ودورها السياسي والإداري، بحيث يتكاملان في دور ‏وطني انساني ينهض البلاد ويحفظ القيم الروحية والاجتماعية في المجتمع.‏
هذا المجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي نشعرُ كم نحن اليومَ بحاجة إليه وإلى دوره، وإلى تفعيل ‏هذا الدور ليكونَ عاملاً أساسيَّاً مؤثِّراً في مسيرة النهوض بالدولة وتنظيم عملها، من خلال السعي ‏إلى خلق المساحة المناسبة لتلاقي الأفكار، حول الاقتصاد والمجتمع، من قبل المجلس الذي يضم ‏خبراءَ من كلّ أطراف الإنتاج، ممّا يساهم "في إنضاج مناخ مناسب للتّفكير الجماعيّ، المحكوم ‏بمصلحة الدّولة واقتصادِها وشعبها"، بحسب رئيس المجلس.‏
من هذا التعريف المختصَر، ومن طبيعة الأدوار المتعدِّدة التي أُنيطت بالمجلس؛ من إبداء الرأي ‏بالمشاريع والاقتراحات، إلى تنمية الحوار والتعاون والتنسيق بين الإدارات، إلى مراقبة الاتجاهات ‏والتطورات في مجال اختصاصه واقتراح خطط التأقلم معها، من كل ذلك ننظر إلى مجلسكم بعين ‏الأمل، راجين أن تسمح الظروف بذلك وأن تتلاقى النوايا والإرادات على المصلحة العامة للدولة، ‏انطلاقاً من احترام الدستور والقانون ومن تحمُّل المسؤولية في الانتقال من دولة المحاصصة ‏والتسويات والمناكفات وتنازع السلطات إلى دولة المواطنة والسيادة والاستقلال وتكافؤ الفرص ‏وتكامل السلطات والشراكة الفعلية بين المؤسسات المتنوِّعة وبين المكوِّنات الوطنية المختلفة تحت ‏عنوان أساسيٍّ واحدٍ هو "بناءُ الدولة".‏
لقد دَعيتم مراراً إلى عقلنة مفهوم التغيير والإصلاح بدءاً من تطوير قانون الانتخابات وسَنّ ‏التشريعات وصياغة سياسة اجتماعية واقتصادية عادلة وفعَّالة، إلى ضرورة مكافحة الآفات ‏ومعالجة القضايا المتراكمة بعيداً عن المطالب والحصص والمناكفات، وإلى وضع جدولٍ زمني ‏للإصلاحات والإنجازات المطلوبة، وهذا جميعُه ما نشاطرُكم الرأيَ به وما ندعو معكم إليه، وما ‏نرى وإيَّاكم أنه قاعدةُ الانطلاق لبناء الدولة الحديثة.‏
من الطبيعي والبديهيّ القول إنّ لغة الاقتصاد هي لغةُ السّياسة في عالم اليوم، ولكن لا بدّ من ‏الاعتراف بالحقيقة المُرَّة، فقد كان للأزمات المتلاحقة، المحلية والإقليمية والعالمية الأثرُ الكبير على ‏هذا الاقتصاد وعلى الواقع الاجتماعي والسياسي والأمني والبيئي. هذا الواقع الذي يعاني أصلاً من ‏تشوُّهات دراماتيكية ناتجة عن جملة عوامل، تبدأ من عدم وجود رؤية شاملة ومنهجية لإدارة ‏الدولة، ومن إهمال كبير للقطاعات وتحوُّل ِلبنان الى دولة استهلاكية بامتياز تموِّلُها البنوك، ومن ‏قطاع مصرفي يدفع فوائد خيالية على الودائع، ومن تراكم الدين الداخلي والخارجي لتمويل الإنفاق ‏على قطاعاتٍ أساسيَّة يُفترض بها ان تكونَ الرافد الرئيسيَّ لخزينة الدولة، وعلى رأسها قطاعُ ‏الكهرباء، ولا تتوقّف تلك العوامل عند استمرار المحاصصة وتفشّي الفساد وتوسّع نطاقه، وعند ‏قصور الدور الرعائي للدولة في كلٍّ من المجال الاجتماعي والصحي والتربوي والانمائي.‏
إلى ذلك، فقد جاءت الأزماتُ اللاحقة المختلفة لتفاقم الوضع، من النزوح السوري الى لبنان وأثره ‏الكبير على الاقتصاد اللبناني، وتشكيله ضغطاً كبيراً على البنية التحتية لقطاعات التعليم والطاقة ‏والمياه والسكن وسواها، إلى جائحة كورونا وتداعياتها الضخمة وتأثيرها السلبي على القطاعات ‏الحيوية، وبالتالي على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي، ناهيك عن الحرب الروسية الأوكرانية ‏التي انعكست تداعياتُها على دولتِنا المُنهَكة وأدّت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة بنسبٍ ‏قياسية.‏
ولا يَخفى الأمرُ على أحد أن سلسلةً من التداعيات المؤثِّرة ألقت بثقلِها على هذا الواقع المُتعَب؛ من ‏تراجع احتياطات المصرف المركزي وانعكاساته على توقف سياسات الدعم للمحروقات والغذاء في ‏ظل غيابٍ ملحوظ لسياسات الحماية والرعاية الاجتماعية، إلى انهيار العملة الوطنية وضآلة فرص ‏العمل، إلى انخفاض الودائع العربية والدولية، وتقلُّص تحويلات المغتربين، إلى عدم إيفاء المانحين ‏الدوليين بالتزاماتهم حَيالَ لبنان وربطِها بالإصلاحات البنيوية.‏
كلُّ ذلك الواقعِ المأزوم وضعَ لبنانَ في غرفة العناية الفائقة، وأكّد أن بلدنا مريضٌ ويحتاج إلى ‏علاج، لنتساءلَ إزاء ذلك معَ المتسائلين، ولو كنَّا نعرف الجواب: هل يصُحُّ أن يكونَ العلاجُ ‏بالمسكّنات؟ أم بالغذاء السليم والحذر والانتباه والحركة المدروسة والدواءِ الناجع والتزام الوصفات ‏العلاجية النافعة؟ أليس من الواضح أنَّ ممارسةَ السّياسة عندنا أصبحت في وادٍ والمطلوبَ في وادٍ ‏آخر، وكأنَّ السياسيين لا يهمُّهم سوى تغليب مصالحِهم الشخصية على حساب المصلحة العامّة؟
جاء في عدد خريف 2021 من تقرير البنك الدولي المعنوَن "المرصدُ الاقتصادي للبنان: الإنكارُ ‏الكبير": "إنَّ الأزمة الاقتصادية في لبنان هي واحدةٌ من أشدِّ عشر ازمات، وربما أشد ثلاث أزمات ‏في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وباتت تُعرِّضُ للخطر الاستقرارَ والسلمَ الاجتماعيَّ في ‏البلاد على المدى الطويل، فقد أفلس نموذجُ التنمية الاقتصادية للبنان الذي ازدهر بفضل تدفقاتٍ ‏وافدةٍ كبيرةٍ لرؤوس الأموال ودعمٍ دولي في مقابل وعودٍ بإجراء إصلاحات، علاوةً على ذلك، ‏يحدث الانهيار في بيئة جيوسياسية تتّسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار، الأمر الذي يزيد من ‏إلحاح الحاجة إلى معالجة هذه الأزمة الحادة".‏
في تصويرٍ دقيق للواقع وأسبابه وتداعياته، يرى التقرير "أن حجمَ ونطاق الكسادِ المتعمّدِ الذي ‏يشهدُه لبنانُ حالياً يؤديان إلى تفكك الركائز الرئيسة لنموذج الاقتصاد السياسي السائد في البلاد منذ ‏انتهاء الحرب الأهلية. ويتجلَّى هذا في انهيار الخدمات العامة الأساسية، واستمرار الخلافات ‏السياسية الداخلية المُنهِكة، ونزيف رأس المال البشري وهجرة الكفاءات على نطاق واسع. وفي ‏موازاة ذلك، تتحملُ الفئاتُ الفقيرة والمتوسطةُ العبءَ الأكبرَ للأزمة، وهي الفئاتُ التي لم يكن ‏النموذجُ القائمُ يُلبِّي حاجاتِها أصلاً".‏
يستنتج التقرير أنَّه لا بدَّ من "الشروع بإصلاح شامل ومنظَّمٍ وسريع في بعض القطاعات، وعلى ‏الأخصّ "في قطاع الكهرباء كخطوة بالغة الأهمية لمعالجة التحديات الطويلة الأمد والمعقَّدة لهذا ‏القطاع الذي يبقى في صميم مسار الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي في لبنان... إضافة إلى ذلك، ‏يحتاج لبنان إلى تكثيف الجهود لضمان تقديم مساعدات الحماية الاجتماعية للفقراء والأسر الأكثر ‏عُرضةً للمخاطر والتي ترزحُ تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المستمرة".‏
وفي معرض التعقيب على التقرير، قال ساروج كومار جاه، المديرُ الإقليمي لدائرة المشرق في ‏البنك الدولي: "إن الإنكار المتعمّد في ظل الكساد المتعمّد يُخلِّفُ أضراراً طويلةَ الأمد على الاقتصاد ‏والمجتمع... وعلى الحكومة اللبنانية أن تمضي قدماً بشكل عاجل نحو اعتماد خطة لتحقيق ‏الاستقرار والتعافي المالي الكلي شاملةٍ ومنصفةٍ وذاتِ مصداقية، وتسريع وتيرة تنفيذها إذا كان لها ‏أن تتفادى دماراً كاملاً لشبكاتها الاجتماعية والاقتصادية، وأن تُوقِفَ على الفور نزيفَ رأس المال ‏البشري الذي لا يُمكن تعويضُه".‏
هذا هو الواقعُ الحقيقي والمؤلمُ الذي يحتاجُ إلى قرار أعلى وإلى تدخُّلٍ واختصاص، وقد قدّمتم من ‏أجل ذلك العديدَ من الاقتراحات التي من شأن الأخذِ بها المساهمةُ في العلاج وتحسينِ الواقعَين ‏الاجتماعي والاقتصادي، والتي يأتي في مقدَّمتها اقتراحُ إصلاحِ أنظمة التقديمات الاجتماعية، ‏والتوظيف، والتعويضات، بالإضافة إلى إعادة النظر بالضرائب وتنظيمِها تصاعديَّاً لتطالَ الطبقاتِ ‏الأكثر قدرة، ودراسةِ الواقع الاجتماعي وحاجات القطاعات المختلفة: الصناعية والزراعية ‏والتجارية والسياحية والأشغال العامة والتأمين وغيرها، لكنَّنا نسألُ أين أصبحت كلُّ تلك ‏الاقتراحات في ظلِّ ما نشهدُه من تجاذبات؟
لقد سلَّطتم الضوء على الكثيرِ من القضايا وبلورتم العديدَ من الأفكار المفيدة التي يعرفُها ويُفكِّرُ بها ‏الكثيرُ من أُولي الشأن والدراية في بلادنا، ولكن ما يجعلُها مَوضعَ اهتمامٍ وأهميَّة هو كونُها صادرة ‏عن مجلسٍ رسميٍّ، ممَّا يُحتِّم على الدولة الأخذَ بها بجديّة، والدولة مسؤولةٌ وصاحبةُ قرار، ولا ‏يجوز أن تُهملَ ما أنتجته عقولُ الاختصاصيين، وإلَّا تكونُ سائرةً على غير هدى، بل عليها أن ‏تضعَ الأفكار الصائبةَ موضعَ التنفيذ، وأقلُّ ما يمكنُها فعلَه لمواجهة الواقع الحالي المتردّي، على ‏المستوى الاجتماعي، هو رسمُ خريطة طريقٍ لوقف الانهيار المالي والاقتصادي والبيئي، والوقوف ‏إلى جانب الطبقات الفقيرة، وتقديم مساعدات منظَّمة ومباشرة للأسر الأكثر فَقراً، وصولاً إلى ‏برنامج تكافل اجتماعي وإجراءات داعمة لتحفيز الإنتاج وخفض نسبة البطالة، مع ما يتطلَّبُه ذلك ‏من استعانة بالصناديق الدولية الداعمة بعد استعادة ثقتها بالدولة وإجراءاتها، ممّا يُرسِّخ تالياً ثقةَ ‏اللبنانيينَ بدولتِهم.‏
ممَّا لا شكَّ فيه أننا نواجهُ تحدياتٍ ضخمة، ولا يمكنُنا إلقاءَ المسؤولية على جهةٍ دون أُخرى، إنَّما ‏على كلِّ مسؤولٍ أن يتحمَّلَ تَبِعةَ ما وصلت إليه البلاد بحسب موقعِه ودوره وارتباطاته المعرقلة أو ‏المسهِّلة للتقدُّم، لكنَّنا نؤمن معكم بأنّ تلك الأزمات قابلة للحلّ، ونُضيف أن ذلك ممكنٌ فقط من ‏خلال احترام الدستور والتصدّي معاً لمعالجة الواقع الراهن بمنع حصول الفراغ الرئاسي كما ‏يحصلُ في معظم الأحيان، ومنع عرقلة تأليف الحكومة المنسجمة والقادرة على التعاطي الإيجابي ‏مع الملفَّات الإصلاحية المطلوبة، ومن خلال تأكيد احترامِ الطوائف وما تمثِّلُه من قيمةٍ روحية ‏وأخلاقية عالية، وتأكيد احترام ِالدولة وما تمثِّلُه من سلطةٍ مدنيةٍ وطنيةٍ عادلة، وبالتالي من خلال ‏العمل معًا على توحيد الرؤية الوطنية وتوجيه الرّأي العامّ، وحثّ المجتمع على رفض الفساد، ‏وعلى المشاركة في بناء الدّولة.‏
لقد تعوَّدنا على الشكوى والتعبير عن امتعاضنا من الواقع، أفلا يجدرُ بنا أن نَحثَّ على متابعة ما ‏بدأناه من إجراءاتٍ إصلاحية، وألَّا نفقدَ الأملَ بقدرتنا على الإنقاذ؟ بما يتطلّب كلُّ ذلك من انفتاحٍ ‏فكريّ وتطوُّرٍ علميّ ومواكبة عصرية وواقعية، ومن تحديثٍ للقوانين من أجل ضمان اقتصادٍ ‏مزدهر وتأمين شبكة أمانٍ وحمايةٍ اجتماعية وتنظيم كلّ ما يتعلَّق بشؤون العمل والسّكن والتّربية ‏والطّبابة والإبداع.‏
الصورة تبدو قاتمة، كما أشرنا، ولكن الحلول ما تزال ممكنة، مع توافر النوايا الطيبة والعمل ‏الجادّ، وذلك يبدأُ أوّلاً: بتوفير الحماية الاجتماعية الشاملة، وباعتماد مبادئ الحوكمة الرشيدة في ‏صوغ السياسات الرسمية وتنفيذها، وبإصلاح حقيقي في إدارات الدولة ومؤسساتها، وباعتماد أسسٍ ‏علمية للتوظيف قائمة على دراسة دقيقة وشفافة للحاجات الفعلية، بما فيها إعادة النظر بالوظائف ‏العامة، مع مراعاة التطور الإداري والتكنولوجي وما يحتمه من استحداث وحدة لـ "البحث ‏والتطوير" ‏Research & Development‏ في كافة إدارات الدولة ومؤسساتها، إضافةً إلى دعم ‏القطاعين الصناعي والزراعي بما يخفف من الاستيراد ويخلق فرص العمل، وإلى خطواتٍ أُخرى ‏مهمَّة وضرورية، كاتّخاذ ما يلزم من اجراءات تشريعية واجرائية لضمان استخراج النَّفط والغاز ‏واستثمارهما محلياً ودولياً على نحو مستدام وشفاف بعيداً من المحاصصة والفساد والهدر، ‏واستكمال خطوات إعادة النازحين من الأخوة السوريين الى المناطق الآمنة في وطنهم، وإعادة ‏أموال المودعين بما لهذا الأمر من أثر ايجابي على اعادة الثقة بالدولة وتعزيز الاستقرار ‏الاجتماعي وتحفيز الدورة الاقتصادية.‏
إلى ذلك، لخَّص أحدُ خبراء البنك الدولي ما هو مطلوب بخمس نقاط: ضبطُ الحدود الجمركية- ‏توحيدُ سعر الصرف – تفعيلُ الجباية – مكننةُ القطاعاتِ والإدارات –والشفافية، أمَّا إذا ما دخلنا في ‏التفاصيل، فيمكن أن تُضاف إلى تلك الحلولِ المطلوبة اقتراحاتٌ تتعلَّقُ باعتماد الطاقة المتجدِّدة ‏وأهميتِها في حماية الاقتصاد وفي الحدّ من التدهور البيئي، وكذلك بأهمية تفعيل الشراكة بين ‏القطاعين العام والخاص، وبتأكيد الانفتاح على العالم وتعزيز التعاون الجدِّي والمُتقدِّم مع الدول ‏العربية، وأخيراً، وليس آخراً بالحوار الداخلي الشفاف بين جميع المكوِّنات بغية خلق مناخٍ إيجابي ‏يساهم في إرساء الاستقرار على الصعيدين السياسي والأمني، ما ينعكس خيراً على الصعيد ‏الاقتصادي وجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية.‏
إنها مسؤوليةُ الجميع، وبالنسبة لنا، فإنَّ التحديات الاجتماعية والمعيشية تحتاجُ، بالإضافة إلى ‏الحلول المذكورة وقبل كلِّ شيء، إلى التضامن الاجتماعي وعيش العدالة الاجتماعية في بيوتنا ‏وعائلاتنا ومجتمعاتنا الصغيرة والكبيرة، وعلى قاعدة قول الإمام علي (ع) : "ان الله سبحانه فرض ‏في أموال الأغنياء أقواتِ الفقراء, فما جاع فقيرٌ إلّا بما مُتِّع به غنيّ، والله تعالى سائلُهم عن ذلك"، ‏وكذلك على مستوى الجمعيات الأهلية، المحلية والاغترابية، كما تحتاجُ إلى القناعة وضبط ‏المصروف والعودة إلى الأرض والتعامل مع الواقع بواقعية، وإلى تقوية الإيمان في القلوب عوضاً ‏عن الصراخ والشكوى باستمرار، فاللهُ تعالى يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وهو نعم ‏النصيرُ المعين.‏
وإنَّها مسؤوليةٌ أخلاقية، تزداد أهميةً كلمَّا ازدادت التحدياتُ والصعاب، وأنتم في المجلس أهلٌ لها ‏وبابٌ من أبواب الأمل المرتجى للخروج من واقع الأزمة و"الإنكار المتعمَّد" إلى واقعٍ الاعتراف ‏الواقعي والتخطيط الجدِّي للإنقاذ، ذلك لأنّ متطلَّباتِ الإصلاح والتعافي، وإن كانت تبدو كثيرةً ‏ومتشعبة، لكنَّها تُشكِّلُ السبيلَ الأوحدَ للحدِّ من الانهيار وإعادة تصويب المسار، وهذا يقتضي قبل ‏كل شيء وجودَ نوايا مخلصة من أصحاب القرار لإحداث التغيير المنشود الذي يُفتَرَضُ أن يبدأَ من ‏الداخل، كما جاء في الكتاب المُنزَلِ الشريف: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم". ‏صدق اللهُ العظيم. (سورة الرعد:، آ 11)‏
وفَّقكم الله لما فيه خيرُ الوطن وخيرُ المواطن، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.‏
كلمة عربيد
وكان بدأ اللقاء بكلمة الدكتور عربيد، رحب في مستهلها بسماحة الشيخ ابي المنى، وقال:‏
‏"مع كل درجة من تدرجات هذه الأزمة الطويلة يبحث اللبنانيون عن وطنهم مجددا، بين الخلافات ‏والأحقاد وصراعات السلطة والسطوة والمصالح. يستنجدون بما أمِلوه من مسؤولية مجسدةٍ لخدمة ‏هذا الوطن، بقادة البلاد الذين سلمهم الناس مصائرهم، فأودوا بها وبهم في التهلكة.‏
وفي كل مرة، ومع كل خطوة، ننحدر فيها على هذا السلم المديد، يمد الوطن يده إلى أبنائه، ذخره ‏البشري الذي أنشأه شبراً فشبر، وفكرةً ففكرة. يطلب منهم الخلاص من أنانياتهم، والاتحاد حوله، ‏للخروج من ماضٍ مظلم نحو مستقبلٍ مشرق لايزال ينتظر، ولازال فيه متسعٌ من الأمل لمن ‏سيأتون".‏
واشار عربيد الى أنه مع "دهم الاستحقاقات والضرورات التي تحمل معها الآمال والمخاطر على ‏حد سواء، نلوذ بالعقل وبالمحبة. تقول الحكمة إنه إذا عمت الفوضى، فعليك أن تحتمي بعقلك لكي ‏تنجو.‏
‏" ورأى عربيد "أن لبنان يحتمي بالعقل، عقل الحكمة المعتقة بين أحجار البيوت الدافئة في جبالنا ‏الباردة. تلك المَلَكة التي كانت في أساس تكوينه، حين خرج للعالم وحدةً حضارية لا وحدةً سياسيةً ‏فحسب. كان لبنان في تكوينه الأول، ونؤمن أن كذلك سيبقى، واحة جمال وطاقة نور، ومصدر ‏إشعاع حضاري لا ينطفئ".‏
وتوجه الى أبي المنى: "أنتم في قلب جبله جبلة وعي وانتماء، وركن وحدة وصفاء، ودرب أخوة ‏يمشي إليه اللبنانيون جميعا، في المصاعب والملمات.‏
وتابع: ترحيبنا بكم، لوذ بجمال لبنان، ونقاوة نواته الصلبة التي لا تنكسر، صوانية المعدن، مرمرية ‏الملمس. هذه هويتنا الواحدة التي حمت لبنان إلى الآن، وبها نستمسك لنحميه على الدوام".‏
وإذ أسف عربيد "لأن ظروف الناس وأحوال البلد تتعقد، مع كل استحقاقٍ فائت، أو فرصة ‏مضيعة"، قال:" نحن في المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ننظر إلى هذه الأحوال والفرص، ‏وفي بالنا أولاً اقتصاد الناس. هذا المفهوم الذي يشمل اقتصاد المؤسسات والحال الاجتماعية، ولا ‏يستثني الدولة ومؤسساتها".‏
وأشار الى "أن هذا البيت اللبناني كان على الدوام براقا، نهجس اليوم بحمايته واستعادة زينته، من ‏الذين أضاعوا بريقَ البيت، بتكرار قصة ابريق الزيت. قصة الخلافات والأحقاد والتشفي و"فش ‏الخلق" بالوطن والمواطن".‏
وأكد عربيد "أن المرحلة تحتاج إلى الحكمة التي وحدها تفتح الأبواب المؤصدة أمام الحوار ‏والحلول، ولأن العقل الحكيم والحوار البناء يخرجنا من هذه الفوضى، قررنا في المجلس ‏الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ان نستكمل لقاءاتنا مع سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز ‏الدكتور سامي ابي المنى، فهو رجل الحوار والحكمة، صاحب الكلمة الجامعة".‏
وأردف: "ها نحن اليوم نجتمع لنحمل سوياً الهم الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والتربوي، وقد ‏كان لسماحتكم دور في لجنة التربية منذ ثلاثة أعوام عندما طرحنا الصوت في مجلسنا هذا، في ‏لقاءات تشاركية وتفاعلية لتطوير المناهج مع أركان المؤسسة التربوية. وزارة التربية ولجان الأهل، ‏كذلك نقابات المعلمين والمدارس الخاصة والرسمية".‏
ولفت الى أنه "منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، تعقدت الأمور وسادت المآسي، وباتت تنعكس في ‏تفاصيل حياتنا اليومية، لتصبح مركبة وموصولة على عامل أساس، هو انهيار في سعر صرف ‏الليرة وغلاء معيشة وزيادة الفقر وفقدان تام للحماية الاجتماعية بمختلف ابعادها الصحية والتربوية ‏والغذائية، وزاد من استفحال كل ذلك تعثر الاقتصاد بتعثر دور الدولة من ناحية، وبتفاقم الضغوط ‏على مؤسسات القطاع الخاص من ناحيةٍ ثانية، وسط تخلٍ خارجي عن تقديم المساعدة المطلوبة ‏بإلحاح، تماشياً مع تخلٍ داخلي أكثر فداحةً عن إيفاء مسؤولياتنا الوطنية بالإصلاح وتفعيل حكم ‏القانون".‏
وأشار الى "أن المجلس قدم خلال الأزمة الحالية وقبلها حلولاً للكثير من مشكلاتنا، ليست آخرها ‏الورقة التشاركية لإعادة توجيه الدعم نحو مستحقيه. ثم إطلاق زخم جديد منذ تموز الفائت مع الكتل ‏النيابية بهدف بلورة ورقة جامعة تساهم في وقف الأزمة وتسرع الخروج منها". وقال:" كنا نتطلع ‏ان تتم الاستحقاقات الدستورية بسلاسة لتكون فرصة للنهوض وذلك بعد إنجاز الانتخابات النيابية ‏في أيار الفائت".‏
أضاف: "والآن، كما على الدوام، نستمر في المجلس بتركيز جهودنا وامكاناتنا وطاقاتنا ووضعها ‏في تصرف السلطة التنفيذية، وننمي جهوزيتنا بصورة دائمة للمساعدة على صياغة آراء في ‏الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تستند إلى ركيزتين أساسيتين، الخبرة العلمية ‏والمعرفية، والتجارب العملية العميقة لممثلي القطاعات والنقابات والخبراء بكل أطيافهم".‏
وختم عربيد: "أن اللبنانيين يتطلعون اليوم إلى إعادة تكوين سلطة جديدة ورئيس جديد لوضع رؤية ‏للخروج من الازمة واستعادة الثقة بالدولة ومؤسساتها من كافة أبناء المجتمع اللبناني المقيمين ‏والمغتربين. كما يضعون في أول اهتماماتهم إلى جانب وقف النزيف الاقتصادي والبشري، الحفاظ ‏على المجتمع التعددي الذي لا تقوى فيه جماعة على أخرى. ويتطلعون إلى إدارة سياسية أكثر ‏مسؤولية، تساهم في تخفيف همومهم اليومية وتحاكي تطلعاتهم لبناء مستقبل يحلمون به، لهم ‏ولأولادهم من بعدهم. انهم ينتظرون تشكيل سلطة تعيد لهم ما فقدوه من ثروات مادية ومعنوية، ‏تعيد لم شملهم بعد أن تشتتت العائلات واصبحت الهجرة كابوس يطرق كل باب".‏
حوار
ثم جرى حوار مع سماحته حول عدة مواضيع مطروحة وردّ على أسئلة الحضور، مشدداً على ‏الموافقة على شعار " صرخة حوار" الذي أطلقه أحد المشاركين ومؤكداً على أحقية مطالب معلمي ‏القطاع الخاص والمتقاعدين في هذا القطاع وضرورة انشاء لجنة تضع خطة لأولويات الإصلاح ‏حيال التضخم في التشريعات.‏
ومشيراً الى ثوابت الدفاع عن الأرض وتعزيز ثقافة التصدي للعدوان وعلى رأس ذلك العدوان ‏الإسرائيلي خصوصاً اليوم إزاء إنجاز الترسيم وما نأمله من بدء التنقيب على الثروة النفطية والدفاع ‏عن ثروات لبنان الطبيعية.‏
معتبراً ان دور رجال الدين ليس التدخل بشؤون الدولة، وانما مخاطبة المسؤولين حيال قضايا ‏وطنية أساسية ومن اجل الحفاظ على القيم المجتمعية والأخلاقية وصونها.‏
واكد سماحته "دعم تحقيق مشروع اللامركزية الادارية شرط ألاّ يحرم أي منطقة من أي ثروة ‏وطنية، ويشكل مدخلا للإصلاح والنهوض بالدولة تنمويا والاستفادة من الثروات الطبيعية وتعزيز ‏دور المؤسسات"، معتبرا ان "استعادة اموال المودعين جزء اساسي من اعادة الثقة داخليا وخارجيا ‏بالدولة"، وإذا ما تحمّل المودعون الانتظار ولو طويلاً، لكن لا يجوز أن يتحمّلوا خسارة أموالهم.‏
كذلك شدد سماحته على " الحوار العقلاني "لحماية العيش المشترك بالاحتكام الى العقل للوصول ‏الى النتائج المرجوّة".‏
وختاما دوّن سماحته كلمة في السجل الذهبي للمجلس.‏