نص رسالة مشيخة العقل إلى الإخوان الموحِّدين في اجتماع "خلوة القطالب"، بعذران – الشوف، بتاريخ 28-10-2022
2022-10-29
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِ المرسَلين وأشرف الخَلق أجمعين، وعلى إخوته الطاهرينَ الطيبين.
اللهمَّ اغفرْ لنا ذنوبنا واسترْ عيوبنا وسامحنا في ما قصَّرنا به من عمل، وسدّدُ نوايانا دائماً للخير، واغمرنا بلطفك وعطفك وفيض عطائك، إنَّك أنت الغفورُ الرحيم والجوادُ الكريم.
اللهمَّ إنَّنا نتوسَّلُ إليكَ بساداتِنا الشفعاءِ وأسيادِنا الأصفياءِ أن تقدّرَنا على النهوض بأنفسِنا أولاً، وبمجتمعِنا التوحيدي ثانياً، ويسِّرْ أمرَنا لجمع الشمل وحفظ إخواننا في مسلكِ الحقِّ والتوحيد، وثبِّت عزائمَنا لإعزاز الدينِ وأهلِ الدين وصَون المجتمع من كلِّ شرٍّ مُهين.
المشايخُ الأفاضل، إخواني الموحِّدين،
بعونه تعالى، وببركة المصطفى الأكرم وصحبه الكرام، وبنيَّةِ الخير وإرادة الجَمع، نلتقي هذه الليلةَ في رحاب خلوة القطالب المبارَكة، خلوةِ الأسيادِ الأطهار والأخوةِ الأبرار، لنتبارَكَ من عَبَقِ الذِّكر الطيِّب في فسيح أرجائها، وشذا الأنفاس العَطرة في محاريب صلواتها، وهي تمثِّلُ لنا ما تُمثِّلُ من إرثٍ روحيٍّ ومكانةٍ توحيديّة وواحةٍ معروفيِّة، وهي عندنا وعند مجتمع الموحِّدين، كما البيَّاضةُ الزاهرة، منارةُ التوحيد وجامعةُ الإخوان وملتقى قلوبِهم وإراداتِهم، وهي الأملُ المتجدِّدُ يومَ تحتاجُ الطائفةُ المعروفيَّةُ إلى عباءة الطُّهرِ والتقوى، وصوتِ العقل والحكمة، ونبرة الثبات والعنفوان، وهي الدرعَ الحاميةُ من العوادي والحرزُ الواقي للجبلِ الأشمِّ، بموقعِها المُطلِّ من عَلٍ، وتراثِها الزاخرِ بالكرامات والمكرُمات، وطيبِ نوايا شيوخِها وإخلاصِهم ووفائهم.
في رحاب القطالب، وبين إخوةٍ أعزَّاء، يَطيبُ لنا أن نتذاكرَ ونذكِّرَ بأنَّ الحقَّ الذي نرجوه ونرنو إليه ليس إلَّا "عقائدَ صالحة وأعمالٍ طاهرة ونيَّاتٍ طيِّبة" كما هو مأثورٌ عن الأمير السيِّد (ق)، والذي يُريدُ الحقَّ ويعملُ الحقَّ فإنَّه يُقبلُ إلى النور، ونحن وإيَّاكم لا نتوخَّى سوى الحقِّ ولا نخشى من الإقبال إليه، مستغفرين اللهَ بقلوبٍ خاشعة وتائبين إليه بنوايا طيِّبة، مُستجيرين به تعالى من الحَيرة والفَقر، لأن الموحِّدَ الشجاعُ يختارُ ولا يحتار؛ يختارُ الطريقَ الصحيحَ والصراطَ المستقيم، متّكلاً على الله سبحانه وتعالى بما يختزنه في عقله وقلبه من معرفة ومن صفاء، مُدركاً أنّ "التوكُّلَ ثمرةُ المعرفة، والمعرفةَ ثمرةُ صفاء القلب وتنقيتِه من الأكدار"، كما يقول الأميرُ السيِّد (ق) كذلك، مؤكِّداً أن "النفسَ إذا صفت لاح فيها جمالُ التوحيد" تماماً كما ينعكسُ جمالُ البدر على صفحات القلوب الصافية، وتلك هي نقطةُ الانطلاق وبوَّابةُ العبور نحو السعادة.
وعلى قاعدة الحكمة القائلة في غير مكان: إنَّ "اللهَ لا يحتجبُ عن خَلقِه لكن أعمالَ الخلق حجبته عنهم"، وإنَّ على المرء أن ينزعَ الخطايا من بين أضلعِه ليستجيبَ اللهُ له، وليُرسلَ السماءَ عليه مِدراراً، علينا أن ننظرَ إلى الأمور بواقعيةٍ وتواضُع واعتراف، فلا ندَعُ أعمالَنا تحجبُنا عنِ الله، بل ننزعُ الخطايا والآثامَ من صدورِنا، ونحذَرُ من أن تستفزَّنا الألسنُ الكاذبة وتَحرفَنا عن الصواب، ونتوقَّى من غلَبة الشهوات والأهواء، ونتغاضى عن الإساءات، وننأى عن مناكفة بعضِنا بعضاً، ونُدركُ "أن أعمالَنا تُرَدُّ إلينا" فنُرجِعُ الأمور إلى أنفسِنا لا إلى الآخرين، ونتيقَّنُ أننا إذا أخلصنا لله فإنَّ اللهَ يُخلِّصُنا ويَرفدُنا ويرأفُ بنا، تماماً كما يخلِّصُ المُضطهَدَ المسكينَ من عثرتِه، ثم يُعينُه ويُعطيه ما يحتاجُه للمُضيِّ قُدُماً إلى الخير، ثم يأخذُ بيدِه ويُساعدُه عليه.
إخواني، فليكُنِ اجتماعُنا الديني دائماً موجَّهاً إلى غايةٍ توحيديةٍ نبيلة، وغايةُ اجتماعِنا استنهاضُ بعضِنا بعضاً إذا ما ضعُفت الهِمم، وبلسمةُ الجراح إذا ما وُجِدت، وتمتينُ الروابط الأخوية إذا ما تراخت. ألسنا نُردِّدُ الوصيَّةَ كلَّ يوم بوجوب معاداة من ضامَ إخواننا وعيادة مرضاهم وبِرِّ ضعفائهم ونصرتهم وعدم خذلانهم، فهل أننا نعملُ بتلك الوصيّة؟ وإذا كنَّا نلتزمُ ببعضها، ولو بحدِّه الأدنى وكلٌّ على قدر طاقتِه ومسؤوليتِه، فهل أننا نحترمُ الوصيةَ الرابعة فننصرُ أخانا ولا نَخذلُه؟ أم أنَّ بعض عصبياتِنا وانتماءاتِنا العائلية والغرضية تمنعُنا من نُصرته؟ وهذا ما لا يليقُ بنا كموحِّدين، ولا يجوزُ أن نقبلَ به كمسؤولين.
إخواني، ليس هناك من موحِّدٍ صادقٍ إلَّا ويفرحُ لفرح الإخوان ويتألَّمُ لألمِهم، وليس هناك من أخٍ يغتبطُ إذا ما تعرَّض أخوه لإهانةٍ أو إساءة، وإذا ما حصل ذلك فيستدعي منه التوبةَ الخالصة والإنابةَ الصحيحة، بل يَحثُّنا ذلك لتدارُكِ الأمور والتصرُّف بتعقُّلٍ وحكمة عند اختلاف الدوَل وتسلُّط الظالمين وتعمُّد الإساءات، وليتحمَّلْ كلُّ مسؤولٍ مسؤوليتَه وليعلَمِ الجميع أنَّ "مَن يُطابقُ على إخوانِه فاللهُ لا يُوفِّقُه"، كما كان يردِّد كبيرٌ من شيوخِنا الثقات المرحوم الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، أمَّا نحن فما علينا إلَّا الصبرُ والاحتمال والحذر، فذلك أَولى وأجدر.
المشايخُ الأفاضل، إخواني الكرام
ما يواجهُنا من مسائلَ على المستوى الواقع الديني في مجالسِنا ومجتمعِنا يدعونا إلى التمسُّك بنهج السلف الصالح وخواطر المشايخ الثقات الأجلَّاء، كما يدفعُنا في الوقت نفسِه للتفكير بضرورة التنظيم ودرس ذلك الواقع المنظور وتلك الخواطر الشريفة بتمعُّنٍ ودراية، فنحافظ على الثوابت ونحاول التعاملَ بحذرٍ ودقَّة مع المتغيِّرات، بما يتطلَّبُه الأمرُ من حكمةٍ وتفاهم، فلا نخرج عن الاقتداء بالمسلك الشريف ولا نترك الأمور في مجالسِنا ومجتمعِنا عرضةً للتجاذب والتساؤل والمزاجية والآراء المتناقضة، بل نضعُ القواعدَ والضوابطَ التي تُقيمُ التوازنَ بين ما يجب الحفاظ عليه وبين ما يجب تعديلُه إذا اقتضت الحاجة، وهذا الواجبُ المأمولُ منّا القيامُ به رهنٌ بصفاء نوايانا جميعاً وتفاهمنا وحسن تدبيرنا.
إخواني الأفاضل، لدينا الكثيرُ ممَّا يتوجَّبُ علينا القيامُ به على أكثرَ من مستوى وفي أكثرَ من مكان، ونحن نسعى جَهدَنا لخدمة أهلِنا وشدِّ أزرِ إخوانِنا ورفعِ شأن طائفتِنا، ولعلَّ الظروفَ الصعبةَ التي تمرُّ بها البلاد والعباد، ومهما قست، تكون حافزاً إيجابيَّاً لنا للمزيد من التشبُّث بالمعتقَد والقيَم والتراث والأرض، ولعلّنا جميعاً نُدركُ أنّ الصعابَ تُجوهرُ النفوسَ الموحِّدة، وأنَّ شجاعةَ المؤمنُ تتجلَّى في أيام المِحن، وأنّ االله سبحانه وتعالى يكونُ بعَون المؤمن ما دام المؤمنُ بعون أخيه.
وآخرُ الكلام طلبُ صفاء الخاطر وحسنِ الظنّ، والدعاءُ القائل: اللهمّ حصِّن بالعقلِ أخلاقَنا وبالأخلاق عقولَنا واجمعْ شملَ إخوانِنا الموحِّدين، وأعِنّا بالقيام على قضاء حقوقِ المُستضعَفين، هذا هو دعاؤُنا الدائم، وهذا هو رجاؤُنا القائم، والله تعالى هو السميعُ المُجيب.
والحمدُ لله ربِّ العالمين، والسلامُ عليكم أجمعين. ورحمةُ الله وبركاتُه.