كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في الذكرى الـ26 لرحيل شيخ العقل الشيخ محمد ابو شقرا في الأونيسكو 20/5/2017
2017-05-20
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله في كل بدءٍ وختام نحمدك ونستغفرك ونستعينك يا رب العالمين
وصلى الله على نبينا محمد سيد المرسلين وسلم على آله وصحبه الطاهرين الطيبين
والسلام على كافة الأنبياء والمرسلين
والسلام على (أصحاب) الفخامة والدولة والمعالي، وأصحاب الغبطة والسماحة والفضيلة والسعادة والأخوة الحاضرين
وبعد
إنّنا إذ نكرِّمُ اليوم كبيراً من رجالات لبنان، نُكرِّمُ فعلًا، في الآن عينِه، معنًى أساسيّا من معاني كينونةِ وطنِنا العزيز. لقد كان بلدُنا الغالي على الدوام بيئةً خصبة لكبار الرِّجال، وفي ذاكرةِ كلّ منّا مثالٌ، بل مثالات لهؤلاء الّذين تميَّزوا بفسحة العقل والرُّوح، فكرَّسوا حيواتِهم للتأسيس والبناء من دون أن يغيبَ عن بالِهم، في عمق مقاصدِهم، الصَّرحُ الوطنيُّ من حيثُ هو غاية تسمو في قيمتها وجدْواها على كلِّ المصالحِ الفئويَّة الضيِّقة.
عندما نذكرُ سماحةَ الشيخ محمّد ابو شقرا، فإنّنا في الحقيقة نستحضرُ شيخاً وقوراً وحضورًا وازنًا في التقاليدِ الوطنيَّة تُرجَّحُ كفَّتُه على أيّ حضورٍ آخر.
من بناء دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت التي أرادها أن تكون مدماكًا وطيدًا ثابتا في بنيان وطننا لبنان الى المؤسسة الصحية في عين وزين، مسيرة توحيدية وطنية مثمرة. رسَّخت علاقاتٍ وطيدة، خصوصًا بين القادة الروحيّين مُسلمين ومسيحيّين، ما تمَّت ترجمتُه لاحقا في سياقيْن مُهمَّيْن في إطار تأكيد الثوابت الوطنيَّة الجامعة، والثوابت الإسلاميَّة التي يُمكنُ أن نراها اليوم مقدِّمات باكرة وضّاءة لما نشهده في وقتِنا هذا من حيويَّة فكريَّة في إطار التعاطي مع مفاهيم المواطنة والحرّية والاحترام المتبادَل ودعم كلّ ما من شأنه تثبيت قواعد الدولة العادلة القويَّة والحاضرة بكلّ مقوِّمات الفاعليّة في العالم المعاصِر.
كان سماحتُه مسكونًا بـإرادة الإصلاح الاجتماعي على قاعدة أنَّ الخيرَ أفعالٌ وإنجازات وليس مقصورًا على هاجس خلاص الذات وحسْب. وتلك إرادةٌ استندت على إيمانٍ بضرورة التفاهُم على المبادئ لتكونَ أساسًا متينًا لوحدةِ الصّفّ، فكان المبادر الى مأسسة القضاء المذهبي الدرزي ومشيخة العقل وإنشاء المجلس المذهبي. ومِن حسِّه التاريخيّ بالتقاليد المعروفيَّة عزَّز الموقفَ السياسيّ العام، وطنيّا، بالشعور العميق أنَّ تاريخَ الجبل يحفظُ لبنِيه الأشاوس أنَّهُم مُكوِّنٌ ذو عراقة من مُكوِّنات لبنان الوطن، وعمومًا بأنَّهُم معتزّون بعروبتِهم، متجذّرونَ في تراثِهم الإسلاميّ الحضاريّ المتنوِّر، وبأنَّ حضورَهُم الجوهريّ هو في المدى الإنسانيّ الفسيح بما يحملونه والحمد لله من فضائل وتقاليد شريفة وأخلاق حميدة يحافظُون عليها كلَّما لاقَت بهم الحياة.
هذه كلُّها ثوابت في الوجدان والضَّمير والذاكرة.
الحضور الكريم
في ذكرى الشيخ الجليل، نتطلّع الى واقعنا اليوم والأسى يعتمر القلب على كل حال، وبكل صراحة، نحن في طائفة الموحدين الدروز يمتلكنا الحسِّ السياسيّ الوطني الجامع الذي كوّن لبنان والّذي أثمرَ لنا ذات يومٍ مضى ما اتَّفق الوطنيُّون على تسميته آنذاك بـــ"الميثاق الوطنيّ". نحنُ نتمسَّكُ، ليس بالميثاق تحديدًا وحسْب، بل بروحِه، وبفلسفته، وبمقاربتِه الفذَّة التي مكَّنتِ اللبنانيّين من بناء وطن ذي "رسالة". وقناعتُـنا المستندة إلى قراءة التاريخ برويَّةٍ وتبصُّر، تدعونا إلى القوْل أنَّه ما من ظرفٍ زمنيّ ملتبس اهتزَّت به أركانُ الوطن بالأزمات والصّراعات، إلَّا وكان ذلك نتيجة إهمال روح الميثاق، والمكابرةِ على النصوص الدستوريَّة بما يتجاوزُ مقاصدَها الوطنيَّة التي من أجلِها اعتُمِدَتْ، والذّهاب بعيدًا في لعبة المصالح السياسيَّة الفئويَّة.
إنَّ العالمَ من حولِنا يعبُر الآن في فترةٍ يتسارعُ فيها إيقاعُ التاريخ. ونرى عبر ذلك أنَّ دولًا كبرى تعبِّرُ عن مخاوف ومخاطر وتهرعُ إلى لعبة الحفاظ على مصالحها بأيّ ثمن. في حين أنَّ منطقتَنا العربيَّة والإسلاميَّة تحدق بها الأزمات المعقَّدة من كلِّ اتّجاه. علينا أن نحصِّنَ بلدَنا حماية وصونًا لأهلِنا وشعبنا. إنَّ المسارعة في وضع حركةِ الحُكم ومؤسَّساته في الطريقِ الدستوريّ السليم هو طريق النجاح للعهد الذي نريد له النجاح وللحكومة التوفيق، أولاً في تحصين جيشنا الوطني الذي يتصدى لأكثر المهمات بنجاح والحمد لله، ولاستقرار الوضع الاقتصادي الذي يرهق كاهل المواطنين.
لقد عبرنا مرحلةَ التعطيل والجمود بفضل شجاعة الإقدام على تفاهمات مشترَكة. علينا، أعني على القادة السياسيّين خصوصًا، الدَّفـع بهذه التفاهمات إلى فسحة المناعَة الميثاقيَّة التي لا يقوم بلدُنا إلَّا بها سالمًا من أيّ انتكاس. ولكن إذا كان قانون الانتخاب مدخلاً لتصويب الحياة الديموقراطية وتجديد المؤسسات بقرارٍ من الشعب، فإن ما شهدناه في بعض الطروحات ليس إلا مزيداً من الفرز والتقسيم، بدل الجمع والتقريب.
في مسلكنا التوحيدي ما من ميزان راجح بالخير دون نيّة طيبة معقودة به. أقول للبعض حسِّنوا نواياكم.وتابعوا التواصل والحوار فلا بدّ بعد العسر يسرَ.
أما لجهة مجلس الشيوخ، وللتاريخ ومع ارادتنا بالترفّع عن أي سجال طائفي، نذكِّرُ توضيحاً للحق، أنه بتاريخ 21/4/1983، وبمبادرة آنذاك للخروج من التجربة المفجعة ومرارة القلب الى رحاب الحقل الإنساني الجامع، وقعّ كل من المرحومين الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان مع قائد المسيرة الأستاذ وليد بك جنبلاط مذكرة بالمطالب الوطنية والسياسية والأمنية للموحدين الدروز، وزِّعت على المراجع المختصّة في حينه، وتضمنت مطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ مع تفصيل لصلاحياته وأن تكون رئاسته للطائفة الدرزية، ونحن نعتبر مع عموم أبناء الطائفة أن مجلس الشيوخ قد أوجد في رحم الطائف وأن ولادته مرتبطة أصلاً بإلغاء الطائفية السياسية. ونرى ان أي خطاب لإدخال هذا الموضوع في جدليات، يكون بداية تخلي عن المبادئ العامة والأساسية بوجه طائفةٍ تأسيسيةٍ تاريخيةٍ في وطننا لبنان.
إننا نرى ان اللحمة الحقيقية لهذا البلد في جوهر المصالحة الوطنية والعيش المشترك والثوابت الميثاقية التي نادى بها القادة الروحيون على الدوام، وفي المبادئ الدستورية المتجددة في الطائف، وروحها الميثاقية، ونحن ننادي بها أيضاً كي يكون لكل ملامح الشعب اللبناني ملاذاً عزيزاً قوياً مصاناً للعيش المشترك، والمساحة الحرة التي نحافظ بها على قيمنا ومثلنا الإسلامية – المسيحية المبنية على الإيمان بالله الرحمن الرحيم، بالله المحبة، بالنعم التي أوجد بها الإنسان، قادراً على معرفة الآخر ليكون له مرآة روح، وإمكان شراكة في الوجود الحي، على النقيض تماماً من كل نوازع النفس الأمَّارة بالسوء والعنف والبغضاء.
لا بدّ لنا في هذا اليوم المشهود من أن نذكِّر بأنَّ طائفةَ الموحِّدين الدّروز، هي الخميرةُ الطيِّبة التي بها نضجَ كيانُ لبنان كما يعرفُ ذلك (اذا اراد) كلُّ من له متابعة تاريخية وثقافة وطنيَّة. ولا يُمكنُ أن يُقاس تراثها بالعددِ والنّسبةِ الكمِّيَّة. بل هي طائفةٌ في موقعِ الاتّزان الوطنيّ والميثاقيّ، إذ كان مشروعُها على مرّ التاريخ هو الوطن بعيدًا عن كلِّ تعصُّبٍ طائفيّ. همُّها الأساسيّ هو كيان الدَّولة بكلِّ مؤسَّساتها. إنَّها طائفةُ العقل المنفتح على كلِّ ما من شأنه حفظ لبنان بعيدًا عن أخطار التشرذم والفئويَّة والإنعزال والتمترس الطائفيّ. إنَّها طائفةُ المصالحة والحوار والعيش المشترك. يدُها على الدّوام ممدودةٌ بشجاعةٍ لتبقى جسورُ الألفة والتفاهُم والوحدة الوطنيَّة ضمانة ضروريَّة لحرِّيَّة كلّ اللبنانيّين وكراماتهم. إنَّها طائفةُ مهيَّأةٌ بقياداتها ورجالاتها وكبارها لكلِّ ما من شأنه أن يعزِّز الرُّوحَ الميثاقيَّة اللبنانيَّة كما عبَّر عنها الدّستور، وكما عاشها رجال الاستقلال. هكذا كنا وهكذا نكون.
معكم يا أصحاب السماحة والغبطة، لنزرع جميعاً في كل خطبةٍ وعظةٍ بذور التعاضد والتلاقي والمحبة والتكافل والتضامن والمواطنة، لأن هذا دورنا وهذه رسالة أدياننا السماوية، وبذلك فقط خلاصنا وخلاص الوطن، ونتوجَّه بالدُعاء لله عزَّ وجلّ أن يحفظ بلداننا وشعوبنا، وأن يمنَّ على أقطارنا العربية بالاستقرار والسلام، مؤكداً تضامننا مع القضية الفلسطينية، وخاصة موضوع الأسرى الفلسطينيين، وممانعة تهويد القدس الشرقية، وأن يمنّ بالسلام على أرض السلام، إنه هو السميع المجيب.