2016-09-12
إنَّها رحلةُ ارتقاءٍ من عتماتِ الغريزة المُبهَمَة، إلى يناعِ الرُّوح وكمال المروءةِ التي بها يصيرُ المرءُ متحقِّقًا بمعنى الغاية من وجوده في أرضِ الله الّذي ﴿لَهُ مقاليدُ السماوات والأرض﴾. ورحلةُ الحجِّ هي في قلبِ هذا المعنى، لا يصلُ المرءُ إلى بيتِ الله وما يرمزُ إليه إلَّا بعد إحرامٍ وسعيً ووقوفٍ وصلوات تُتلى في رحاب الأرض المباركة وصولا إلى النَّحر الّذي هو هَدْيٌ يُرادُ به التَّـقوى لقولِه عزَّ وجلّ ﴿وَلكِنْ ينالُه التَّـقـوى منكُم﴾.
إنَّ ثمرةَ الدِّين الحنيف التقوى التي هي ينبوعُ الخير. هي الخُلُق الأرفع الذي لا يمكن تحقيقه في الوجدان والقلب وخلجات الصُّدور إلَّا بتهذيب الجوارح والنَّفس والنوايا من كلّ الموبقات. إنَّ الخروجَ من هذا الأصل يوصلُنا إلى ما نراه اليوم ممَّا يُشبهُ النكبات التي تُقصِمُ ظهرَ الأمَّةِ، وتُفتِّتُ بنيانَها، وتُوهِنُ عقدَها، وتجعل من حِماها ملعبًا لمصالِح الدُّول الكبرى التي تملكُ في حقيقةِ الواقع أعنَّة الأمور على حسابِ حرِّيَّات الشُّعوب وحقوقها بالعيش الكريم.
نحنُ من جهتنا نريدُ أن نكون من القابضِين على دِينهم كالقابض على الجمر. متمسِّكين بمثال الأخلاق الحميدةِ ونَصبُ أعيننا الآيةُ الكريمةُ ﴿التّائبونَ العابِدُونَ الحامِدُونَ السَّائحون الرّاكعونَ السَّاجِدونَ الآمرون بالمعروفِ والنَّاهُونَ عنِ المُنكَر والحافظُونَ لحُدُودِ الله﴾ (التوبة: 112).
إنَّ مواقفَنا في كلِّ مناسبةٍ، ومنهجَنا في المقاربة التربويَّة، ولسانَ حالِنا بين كلِّ النَّاس، لا تخرجُ عن روحيَّةِ هذه المعاني النبيلة التي بها تُثمرُ كلمةُ الله الثمرَ الطيِّب التي ما انوجدت إلَّا لتحقيقه ﴿إنَّ اللهَ عليمٌ بِذاتِ الصُّدُور﴾. وعليه، فإنَّ منتدياتِنا ومؤسَّساتِنا ومدارسَنا وما إليه تُزهرُ بالكلِم الطيـِّبِ والذِّكر الحميد، ونحنُ نَربأُ بأنفسِنا عن افتراءات من هنا وهناك لا تبالي بحقائق الأمور بقدر ما تسعى لأغراضٍ بغيضة نسأل الله العزيز القويّ أن يجنِّبَ وطنَنا وشعبَنا كلّ شر.
إنَّ الجبل، بقيادته السياسيَّة، وبتراثه الرُّوحيّ، يحمل رايةً وطنيَّة، وهي رايةُ الحوار والاعتدال وثوابت الميثاقـيَّة الصَّادقة، وإنْ أخلص المرءُ في رؤيته وفي إخلاصه للعقلِ المتَّزن، لأدرك أنَّ هذا الأمر هو من صميم أصالة الجبل منذ مئات السِّنين. إن ما نشهده في هذه الأيام من اشتداد للمواقف المتباعدة والذهاب إلى انقطاع لغة الحوار؛ مع ما يحيط بنا من أزمات وصراعات، وفي ظل الشغور المعيب في موقع رئاسة الجمهورية والشلل القاتل في عمل المجلس النيابي، والتعطيل المتمادي لعمل الحكومة؛ كل ذلك يجعلنا أمام تحديات خطيرة تهدد مستقبل البلاد والمؤسسات برمتها؛ هذه الدولة التي تفقد مؤسساتها القدرة على التحرك والعمل واحدة تلو الأخرى؛ وكأننا لم نتعلم بعد من دروس الماضي التي أثبتت أن الدولة وحدها قادرة على حماية الجميع وإعطاء الحقوق للجميع؛ لا التناحر والفرقة. إننا وإزاء هذا المشهد؛ ندعو كل القوى السياسية إلى استلهام معاني عيد الأضحى المبارك، وأهمها التضحية في سبيل خير المجتمع؛ حيث من الضروري والملحّ تقديم تنازلات من قبل الجميع لمصلحة بقاء الوطن ومنع انهيار قطاعات الدولة بدءاً من المحافظة على عمل الحكومة الحالية، وتقديم الحصانة السياسية لمؤسستي الجيش وقوى الامن الداخلي. لم يعد ينفع اللبنانيين سوى خيار التكاتف الحقيقي والانصراف إلى حل سياسي داخلي بامتياز يعيد للمؤسسات الدستورية دورها وموقعها وقدرتها على العمل الطبيعي. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحميَ وطنَنا الجبيب لبنان، ويصونَ أمَّتنا، من سوريا الى العراق الى اليمن الى غيرها، ويشقَّ حُجُبَ الفتن عن كاهل شعوبنا الاسلاميَّة كي تبقى بلدانها رافلة بالعزّ والحرّيَّة وبركات الحياة الكريمة. ونسأله في هذه الأيَّام المباركة المتوَّجة بالأضحى، أن يُلهمَنا إلى كلِّ خير، وأن يسدِّدَ خطانا في كلِّ محمدة، وأن ينيرَ بصائرَنا ويطهِّر قلوبَنا وينقّي نوايانا في طاعته.﴿إنَّ ربِّي لَسَميعُ الدُّعاء﴾. (ابراهيم 39).