المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الجمعة ٢٦ نيسان ٢٠٢٤ - 17 شوال 1445
رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن لمجلة الضحى عدد 12

2015-05-08

الإخلاص للأصول الجامعة    
يتطلَّبُ الارتقاءُ إلى المستوى اللائق، الّذي يجبُ أن نتطلَّعَ إليه جميعًا، لمقاربة أسئلة كبرى مطروحة في زمننا الراهن حول تراث الموحِّدين الدروز التاريخي والعقائدي، حدًّا أدنى من احترام العقل، وما ينبغي أن يكون مقاربة موضوعيَّة غير واقعة تحت سيْل ما يمكن أن نسمّيه اليوم "الهرج الاعلامي".       إنَّ الانطباع العام المتولِّد من قراءة سطحيَّة للأمور لا يُمكن أن يكوِّن عِلمًا ولا معرفة. ونحنُ، إذ نرى ونتابع، أونُبلَّغ عمَّا يردُ هنا وهناك من مداخلات في هذا الشأن الدَّقيق الواسع، لا يسعنا إلا أن نعبِّر عن بالغ الأسَف إزاء هذا الكمّ المخيف من المغالطات والتلفيقات والادِّعاءات التي تقدِّمُ لنا مشهدًا مُزيَّفًا وملتبسًا وغريبًا ليس له مع الحقيقة أيّ صلة سوى طابع الاستهتار بها، والخفَّة الممقوتة في التلاعُب بقشورها، ناهيك عن إمكان الخبث في استخدام أدواتٍ فارغة من حقائق المعاني، بل ومشحونة بسفاسف التعابير والمقاصد، لا ثمرة لها سوى تعميق فجوة الباطل، والاسهام الأثيم في بلبلة خواطر الكثير من الناس ممَّن لا يملكون القدرة الكافية على التَّمييز والتمحيص.      
لا بدَّ في هذا السِّياق من التَّذكير بالأصُول التوثيقيَّة التي هي أكثر عُمقًا في الجذور من المفاهيم الشعبيَّة السَّائدة التي يجبُ، في كلّ حال، التعامل معها باحترام وفقا لمعيار التّدقيق بين الأثيل منها والدَّخيل. ثمَّة نصوص تاريخيَّة كتبها مُوحِّدون في القرنين الثامن والتاسع الهجريَّين (الرابع عشر والخامس عشر ميلادي) ترقى إلى مصاف مصادر تاريخ لبنان في تلك الحقبة التي يصفُها العديدُ من المؤرِّخين المختصِّين ب"العصور المظلمة"، ويشيرون إلى أهميَّة تلك المدوّنات التي من شأنها الإضاءة على ذاكرة بلدنا، والتي "لولاها، لبقيت هذه الحوادث نسيًا منسيّا".          
الحوادث المقصودة يُمكن وضعها في إطار مشاركة أسلاف المعروفيّين في الذّبّ عن لواء "الأمَّة" بمعناها الجامع، والتي كانت تُمثَّل برمز الخلافة العبَّاسيَّة وما يبرز في ظلِّها من "إمارات" و "سلطنات" سلجوقيَّة و أيُّوبيَّة و مملوكيَّة أقرَّت على التتابع للأمراء البحتريّين والتنوخيّين ولايتهم على إقطاعاتهم على مرِّ قرون من الزَّمان. ولا نقرأ في تلك الآثار النفيسة ما يشي بأبعادٍ طائفيَّة أو فئويَّة أو رهابٍ أقلويّ، بل نقرأ عن فرسان ضحُّوا بالغالي والرَّخيص في سبيل كرامةٍ جامعَة تحت لواءٍ عزيز واحد هو لواء "الأمَّة" مهما اختلفَ ولاةُ الأمر و الحِمى.      
ما يهمّ ايضًا هو استقراء ثقافة القوم وعاداتهم وتقاليدهم وآداب لسانهم إلى ما هنالك من ضروب البحث و التنقيب، فكأنَّه حجر الماس كيفما أصبته وجدته مشعًّا صلبًا ومن معدِن الشَّهامة ذاتها والإباء عينه والمروءة إيَّاها. وجدتَ الأصالةَ لا تزعزعُها عن ركنها الرَّكين عواصفُ الدَّهر ولانوائبُ القدَر ولا سفسطة العابثين.     إنَّه معين الماء تتلألأُ في صفائه صوَرُ باطن النّفوس واعتقاداتها. اقرأوا بإمعانٍ سيَر حياة الأفاضل التي يُمكن أن تُستشفّ من النصّ التاريخي، وما نهَجُوه من مسلك يرقى إلى ذروة التَّحقُّق الإنساني الأمثل، وما نصح به بعضُهُم من قواعد راسخة في متن الإرث الإسلاميّ الخالي من شوائب الاعتباط والتَّركيب. اقرأوا من دون رأي وقياس، ومن دون تفصيل الثَّوب على الوقائع الراهنة وفقا لنـزوات ادِّعاء التَّحديث (وهذا ما نجده عند بعض الكتبة الّذين يخوضون في موضوع التراث وقوفًا فوق رمال الشاطئ العقيمة دون إبحار صوب آفاق المعنى اللطيف). وليكن الذِّهنُ صافيًا مخلصًا في طلب الحقيقة بحيثُ تكونُ قراءةُ سيَر الحياة تلك في غايتها قراءةً للنَّهج وللمسلك الّذي يفرضُ قواعدَهُ وشروطه قبل استخدام الجزئيَّات ذريعةً للتملُّص من النَّهج عينه.       
 إنَّ أيَّ تأويلٍ يُنظرُ فيه بمعزل عن المرتكزات الأساسيَّة التي شاءها الله تعالى قاعدةً للرِّسالةِ السَّماويَّة بشكل عام، والحُجَّة القرآنيَّة بشكل خاص، هو تأويل يفتقدُ الرأسَ فاتحًا البابَ نحو شطحٍ حذَّروا الثقات من تبعاتِه. فالمسألةُ لا تحتملُ الخفَّة والسَّطحيَّة ولجاجة اللسان و"الهرج" الّذي ولَّدته مداخلات المتطفّلين، وسهولة اللعب عبر وسائل الاتِّصال الاجتماعي في هذا المجال خصوصًا.       
 نحن، في مشيخة العقل، ندعو إلى استيعاب الأصُول استيعابًا لائقًا بتراثنا العريق. محذِّرين من الاستسهال الرَّخيص لشؤون الرُّوح، بل والمتاجرة في شؤونها من أبوابٍ شتَّى ، فمن دون التحقُّق القلبيّ الصَّادق في السجايا الرَّفيعة للصدق والمعرفة والإخلاص والأمانة والمروءة والوفاء ، فأيّ ثمرة يمكن أن تُرتجى؟     أيار 2015