المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الجمعة ٢٦ نيسان ٢٠٢٤ - 17 شوال 1445
رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن بمناسبة أول محرم 1436

2014-10-24

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالَمين، والصّلاة والسّلام على خاتم النبيين سيّد المرسلين، وآله وصحبه الطاهرين الطيبين    
 
 اختار المسلمون الأوائل أن يكونَ وصولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلَّم إلى يثرب بدايةً للتأريخ الاسلامي في دولةٍ ناشئة غيَّرت وجهَ الأرض. كان المهاجرون يعبرون سبيلا مُبارَكًا ينقلُهُم من عَسْف الشِّرك و ظلمتِه إلى عدالةِ التَّوحيد و أنواره. و من مجتمعٍ تحكُمُه غرائزُ الرِّجال وعصبيَّاتِهم القبائليَّة إلى مجتمعٍ يأتمرُ بكتابٍ من نور، يأمرُ بالمعروف و ينهى عن المنكر. كان عبُورًا من الشتاتِ و التنافرِ و شريعة صراع البقاء و الغزوِ و الاقتتال و الغَلبَة إلى اللواذِ جماعةً واحدةً بشريعةٍ قوامُها العدلُ و التآلُفُ و التعاضدُ و الرَّحمةُ و القيمُ الانسانيَّةُ التي من شأنها الارتقاء ببني البشر إلى نعمة الوجود الحضاري البنّاء الّذي يُهيِّئُ للناس خيرَهُم وحقوقَهم بما يليقُ بعِلَّةِ وجودِهم التي أنعم بها اللهُ سبحانه و تعالى عليهم كما قال عزّ و جلّ ﴿و لقَد كَرَّمْنا بَني آدَمَ وَ حَملناهُم في البَرِّ و البحرِ و رَزقناهُم منَ الطيِّباتِ و فضَّلناهُم علَى كثيرٍ ممَّن خَلَقنا تفضيلا﴾ (الإسراء 70).    
 إنَّ دخولَ المدينة رَمزَ إلى دخولِ الجماعةِ الانسانيَّة في رحابِ الرّحمةِ الإلهيّة التي تهيبُ بالنّاس أن ﴿تَعاونُوا على البِرِّ و التّقوى﴾. والبِرُّ هو الصَّلاحُ و الخيرُ و الصِّدقُ و الطّاعةُ، ومن صفاتِه تعالى أنه "البَرُّ" أي العطوف الرحيم اللطيف الكريم. فالاسلامُ حين يجمعُ المؤمنين أمَّةً، فإنَّما يجمعها على كلّ هذه المعاني، وما يتجانسُ معها من الرُّوح الساميةِ التي أُعطيَ إليها القرآن الكريم ليكونَ نبراسًا و إمامًا و كتابًا هاديًا منيرا.    
 وإذ نحتفلُ بهذا اليومِ العظيمِ بعد ما يزيدُ على ألفٍ و أربعمئة عامٍ بعشرات السنين، فإنّنا لنقفَ بين أيدي الله تعالى كأنّنا أمام مرآة أوامره و نواهيه. ومهما يكن من أمرنا الآن في حال الفِتنِ والانقسام، فإنَّه لا بدَّ من أن نصدَعَ للحقِّ، لائذِين بعفوه، مبتهلين إليه بشفاعة رسوله، ساعِين بصِدقٍ في طلب رضاه بأن يسدِّدَ خطانا في استدراكِ أمرنا، ويرشدَنا إلى الصّوابِ كي يجتمعَ شملُنا في مسالكِ الطّاعة و وحدة الحال، وهذا ما نرجوه في مقامِ هذه الذّكرى المهيبة.    
ولا بُدَّ لنا، وفقا لما تُمليه ضمائرنا وواجباتنا ومسؤوليّاتنا علينا، من أن ندعوَ إلى استلهامِ العدل في ما يجبُ على كلِّ مَن هو في مواقع الحُكم والمسؤوليَّة العامَّة أن يبادرَ إليه سعيًا في إبراء ذمَّته تجاه شعبه وأهله وبلده. آن الأوانُ في لبنان أن ندْرأَ الأخطارَ المعروفة من الجميع، بالاتّحاد والاقدام على الخطوات الضّروريَّة التي من شأنها أن تدير عجلةَ الحُكم في اتّجاهٍ سليم. هذا أقلّ الإيمان أيُّها السّادة، وهذا أقلّ الواجب القيام بالدَّور الّذي من أجله أُنتخب ممثّلو الشّعب. إنَّ خرائط المنطقة تهتزّ، و لا أحد يعلم إلى أيّ مآل ستؤول إليه الأمور، ولكن، هذا لا يعني على الاطلاق أن نعدمَ العِلمَ بكيفيَّة المحافظة على بلدنا موحَّدًا، راسخًا في عيشه المشترك ونظامه الديموقراطي الّذي وحده يحفظ حقوق جميع مكوّناته. وإذا اقتضت الظّروفُ القيام بخطوات استثنائيَّة ضروريَّة كالتمديد، فليكن ذلك على قاعدةٍ شرطيَّةٍ هي المبادرة إلى انتخاب رئيسٍ قادر على القيام بدوره في إدارة دفَّة الحُكم وفق الدّستور.فالهمّ الاول والاخير حماية الدولة ووجودها برمته، وغنيٌّ عن البيان القول بأنَّ الأزمات الكبرى العاصفة ببلدنا في حقول التشريع والاقتصاد والإدارة والأمن، والعجز عن اجراء انتخابات في ظل قانون بحفظ كيان لبنان، ناهيك عن الأزمات المتعدّدة الناتجة عن تفاعلات الوضع الاقليمي داخل بلدنا، تحتِّم على الجميع إعادة قراءة الرّهانات السابقة، والمبادرة بعدها إلى خطوات تحصِّنُ الوضع الداخلي، وتوفِّرُ للحكومة فسحة العمل المنتج الذي من شأنه وحده أن يعزِّز الثقة، ويحفِّز الهمم، ويوحِّد الموقف السياسي باحتضان القوى الامنية واضفاء الغطاء القويّ لما يقوم به جيشُنا الوطني من تضحيات ومهام كبرى سوف يحفظها له التاريخ في سجل البطولة والشرف والوفاء، فهو الدرع الوحيد لحماية الوطن واللبنانيين.    
 ولا بد للحكومة من متابعة مساعيها بكامل الجدية للإفراج عن العسكريين المخطوفين في جرود عرسال، وتقديم كل ما يلزم من تضحيات في هذا السبيل.      
كما ان  المرحلة الخطيرة في المنطقة تقتضي رصّ الصف الإسلامي أكثر من أي وقت مضى، وتقتضي من جميع أبناء المذاهب والملل الإسلامية التوحد والتعاضد والتكاتف بوجه الأخطار.    
 رجاؤنا أن يحملَ هذا العامُ الأمل والفرَج لشعبنا وأمَّتنا، سائلين الله تعالى أن يأخذَ بيدِ الدَّاعين إلى التمسُّكِ بأعزّ ما قدّمه الاسلامُ الحنيف للحضارة الانسانيَّة من قيَمٍ أخلاقيَّة رفيعة، ومفاهيم عقلانيَّةٍ سامية كانت على الدوام وجهَه الحقيقي المضيء.
بيروت في : 29 ذي الحجة 1435هـ.            
الموافق: 24-10-2014م.