المجلس المذهبي | مجلة الضحي
السبت ٢٧ نيسان ٢٠٢٤ - 18 شوال 1445
كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في اللقاء الروحي والوطني في الصرح البطريركي – بكركي 19/5/2014

2014-05-19

 كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في اللقاء الروحي والوطني في الصرح البطريركي – بكركي  

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين شخصيّة البابا يوحنّا بولس الثاني شخصية استثنائيَّة بمقاييس متعدِّدة. ولئن كان قد قدم جهده لعقيدةٍ دينيَّةٍ عاشها بكلّ ما أوتيه، فهو، بشكلٍ أو بآخَر، تبدَّى في زمننا المعاصر، وجهًا إنسانيًّا مُشرقًا قلَّ نظيرُه. وَ لا يُمكن لشخصيَّةٍ "مسكونيَّةٍ" فذَّةٍ كهذه أن يتجاهلها المعاصرون وان تُنسى. حسبنا أن نتطرَّق إلى بعض مآثره وانسانيته واقتباسه من التراث المسيحيّ اسمى غايات رجُل الله وهي أن يعمل وفق طاقته من أجل "أنْسَنة العالَم". تميَّز "كارول جوزيف فوتيلا" بثقافةٍ منهجيَّة عميقةٍ تمحورت في البدايات حول السؤال الفلسفيّ الّذي كرّسه بدوره ليعمِّق مسألة "الضرورة الأخلاقيَّة" وحيويَّة مطلبِها للكائن الإنسانيّ في سبيله إلى تحقيق فضيلته و كرامته اللتين لا يمكن رفدهُما بالرّوح الحيّ إلا بالإيمان. وإنِ استنارَت مسيرتُه، من الكهنوت إلى الأسقفيّة وصولا لاحقا إلى رأس الكنيسة وما يرمزُ إليه في المعتقد الكاثوليكي، بهذا الاتّصال الجوهريّ بين العلم الفكري المميّز والايمان، وبوجوه أُخرى بين المعرفة ودروب الحياة، و بين الاعتقاد القلبيّ وَ شهادة العيان أقام بها قداسته حُجَّةَ "الحقيقة" على كلّ ما ينزع في هذا العالَم نزوعًا نحو النسبيَّة والتاريخانيَّة والمادّيَّة و الإباحيَّة و ... السّفسطة، فإنَّ الأمرَ الرائع الّذي ميَّز هذا "الطوباويّ" هو أنّ العديدَ من الإنجازات "التاريخيَّة" التي حقَّـقها، تجاوزت في انعكاساتها المعنويَّة و الأخلاقيَّة و الإنسانيّة الإطار الكنسيّ من حيثُ ارتباطها بمفهوم "الرّعيَّة" المقصودة، إلى الأفُـق الحضاريّ العام من حيث دلالاتها المتجذِّرة في سلَّم قيَمٍ إنسانيّ شموليّ عام. شاءتِ القدرةُ (والنِّعمةُ بالطّبع) الإلهيَّة، أن يتولَّى سُدَّة الكرسيّ الرّسوليّ في مفصلٍ تاريخيّ بالغ الحيويَّة، هو الّذي كان قد حضر سابقًا "المجمع الفاتيكاني الثاني" الشهير في بداية الستينيّات من القرن الماضي، فحمل بوعيٍ فائق الامتثال في معناه المسكونيّ، مهمَّة الدخول في الألفيَّة الثالثة وفق ما يليق، ليس فقط بما يمثّله "الحبر الرّوماني" ولمن يمثّـلهم، بل وخصوصًا، للإنسانيَّة جمعاء، وحضورها ذي الإمكان الرّوحيّ القدُّوس في هذا العالَم الدنيويّ أي الإنسان. نظر البابا يوحنّا بولس الثاني، منذ البداية، إلى "الكائن البشريّ" نظرةَ الاحترام الذي يمدُّه الإيمان بتعاليمه السامية، بمعنى أولويَّة الحقّ الكامل بالكرامةِ والحرِّيَّةِ والعدالة. وهذا أمرٌ بالغ الدّقّة لِما ترتَّب عليه من تبعات التأثير في المقام الواقعي لوضعيَّة "حقوق الأنسان" في عالمنا، وإشكاليّاتها، والتباسات مقارباتها. فلم يهادن، ولم يجامل، ولم يتخلَّف عن شهادة قول ما يراهُ الأمثل والأصْوَب والأحقّ أيًّا كانت أمكنة المنتديات، وأيًّا كانت مستوياتُها التمثيليَّة الإقليميَّة والدوليَّة. وفي هذا المنحى لا بدّ من التّنويه بما كان لمواقفه من تعزيزٍ وتثبيتٍ للمقاربة الأخلاقيَّة الرُّوحيَّة الإيمانيَّة الراقية في وجه عواصف انحلال القيَم (خصوصًا كلّ ما يهدّد الكنَف العائليّ بمعناهُ المستنير بالتّشريع السماويّ)، وتهافُت روح المسؤوليَّة تحت وطأة طرح شعارات التّحرّر من كلّ قيد. تميَّز عهدُ البابا يوحنا بولس الثاني بنشاطٍ دؤوب هائل متّسع الآفاق عبرَ ورَشِ عمل في كلّ المستويات لتحقيق مقاصد رسالة الإيمان. ويمكن إيرادُ بعضِ ثمار ما يمكن تسميتُه ب "النهضة" الشاملة. فقد صدرت في ولايته صيغةٌ متجدِّدة للتعليم العقائدي الكاثوليكي جسَّدت توازنًا رفيعًا وبالغ القيمة بين التمسُّك بجوهريَّة الأصول من جهة، وبين انتعاش الرؤية اللاهوتيَّة عبر شروح بلغةٍ معاصرة حيويَّة. لكن الأبرزَ في ذلك الإصدارُ التاريخيّ، هو تضمينُ التعليمِ جزءًا ليس باليسير لمعالجة قضايا طارئة في الزمن الراهن لا يُمكن الغضوّ عنها في مقام العمل التنويري الإرشادي المنوط برأس الكنيسة. وأهميَّة هذا الجزء هي تعرّضُه لمسائل أساسيَّة تتخطّى حدودَ الاهتمام بها "الجسم الكنسي" إلى حدود الحقل الإنسانيّ الشامل. من هذه المسائل: قضيَّةُ دورِ الإعلام، وكيفيَّة التعاطي معه والنّظر إليه، وما له وما عليه. وقضيّة دور العلمانيّين في حقل الإيمان، والعلاقة معهم. وقضيَّة الموقف من الدّيانات الأُخرى، وتجديد المنظور إلى مسألة التعاطي مع معتنقيها، والانفتاح الذهني على المفاهيم المشتركة. ولن ننسى له مبادرة الصوم في اليوم الاول من شهر رمضان المبارك تعبيرًا عن الاتحاد الروحي مع المسلمين، وكذلك زيارته للمسجد الاموي في دمشق واصراره على اتباع العادات الاسلامية في هذا المجال، والدعوة التي وجهها الى ممثلي الديانات في العالم للقاء في أسيزي بهدف الصلاة والصوم من اجل السلام في العالم، وقضيّة الموقف الأخلاقي من إشكاليّات الجموح العِلمي في التجارب المُحْدَثَة في حقل المُعطى البيولوجي الطبيعي. وقضيّة الشباب واهميّة يناع قلوبِهم بالرّجاء و الأمل لأنَّ بهم تتجدَّدُ الحياة.  وقدّ وُفِّق في لقائه مع الشباب المسلم في الدار البيضاء عام 1985 حيث قال:" إن المستقبل يعتمد على الشباب من جميع انحاء العالم. إن عالمنا ينقسم، وحتى أنّه ينفجر!" فعلًا ألم يتحقق قوله في العولمة الحاضرة؟ وقضيّة المرأة والموقف من دعاة "التّحرر النَسَوْي" بالتحذير من شُبهات الشعارات، و التّذكير المسؤول الملتزم بحقائق لا يجوز إغفالها إن أردنا الحفاظ على احترامنا العميق الصادق لهذا الكائن الإنساني المرهف. وفي كلّ المقاربات التي عبّرت عنها النّصوص المُدرجة في هذا السياق، كان ثمَّةُ انسجامٍ راقٍ، ووحدة نظر، وارتباط وثيق مع الرؤية المسكونيَّة العامّة التي حافظ عليها البابا يوحنا بولس الثاني حتى الرمق الأخير. جاب البابا يوحنا بولس الثاني العالم، رأى بلادًا كثيرة، وجموعًا غفيرة، لكنّ صورتَه في الأذهان والذاكرة ظلَّت صورةً واحدة مشعَّة بالمحبَّةِ والأمل. وظلَّ صوتُه واحدًا، وشهادتُه واحدة، مستمَدَّة من التّعليم السّماوي وأصُولِه الحيَّة. و لا ننسى ما أعطاه للبنان الذي زارهُ حاملا بيده وصيَّةَ الرَّجاء لهذا البلد وهي وثيقة "الإرشاد الرّسولي" بعنوان "رجاء جديد للبنان"، و لا بُدَّ من الاعتراف أنّ في نسيج هذا النّصّ، فضلا عن توجيهه العقائدي للمؤمنين، فهمًا عميقــًا لبلدنا، ونُصحًا حكيمًا يُحفَظ بماء الذّهب لو يعلم اللبنانيُّون ما حكاه عن التعايش و الانخراط في ما توجبُه حقائق التاريخ، والارتقاء بالإيمان إلى آفاق الحضور الإنسانيّ الذي لا تورقُ من جذوره غصونٌ وتنضج ثمار إلا بالمحبَّة والفضيلة والتّسامح والحوار الخلاّق والمشاركة ذات الخصوبة في البناء. وممّا جاء فيه حرفيًا:" عاش المسلمون والمسيحيون في لبنان جنبًا الى جنب، طوال قرون مديدة، حينًا في سلم وتعاون، وحينًا في صراع ونزاع. فعليهم أن يجدوا في حوارٍ يراعي مشاعر الافراد والجماعات المختلفة سبيلًا لا بدّ منه للعيش المشترك، وبناء المجتمع." " إن حوارًا حقيقيًا بين مؤمني الاديان التوحيدية الكبرى يرتكز على الاحترام المتبادل، والعمل معًا، على حفظ العدالة الاجتماعية والقيم الاخلاقية والسلام والحريّة وتنميتها لجميع الناس." صدر الإرشادُ خلاصةً لشهور طويلة من المشاورة والاستئناس بالرأي، والّذي ميَّزه وجعله أشبه بوثيقة وطنيَّة هو الرّوح التي صاغتهُ وأقرّته ووقّعته. والآن، علينا في لبنان، أن لا نستذكر نصَّ الإرشاد دون امتثال مقاصد الطوباويّ الكبير، مستحضرين كلام مار بولس: الرّوح يُحيي والحرفُ يميت، بل أن نستشعر الرّوح الكبيرة التي دأبت خلال سنوات كي يُنجز ويكونَ في مقاربته عادلا وخيِّرًا وحيويًّا فيما خصَّ الحياة الوطنيَّة. بهذا الاستشعار ندعو دائمًا الكلَّ في لبنان إلى أن يُحسنَ اقتباس النّعمة، فتكون السنتُهم ونواياهُم وقلوبُهم واحدة، مُنصبَّةً على الإقدام الحقيقي الفاعِل على كلّ ما يُعزِّزُ الرّوح الميثاقيَّة دون تحريف معانيها وجعلها حرفًا ميْتًا، بل روحًا تجمعنا على التمسُّك بكلّ ما يحقِّقها لأنّ بذلك تتحقَّقُ المصلحةُ الوطنيَّةُ العُليا. فإذا صفيت القلوب والنوايا نعرفُ أنَّ ألفبائها هي وحدةُ الأرض والشعب والمؤسّسات، هي أولويَّةُ السيادة والحرّية والديموقراطيَّة الصحيحة، هي العيش الإيجابي المتفاعِل المُشترَك، هي أن لا يكون البيتُ بمنازل متعدِّدة، بل أن يجمعَهُ كنَفُ العائلةِ الواحدة كي يكون لبنان. هذا ما نصبو اليه وتجتمع حوله الرؤية الروحية والسياسية لطائفة الموحدين الدروز.
بيروت في: 19/5/2014. 
* * * * * * * *