المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الجمعة ٢٦ نيسان ٢٠٢٤ - 17 شوال 1445
كلمة سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن في ذكرى الاسراء والمعراج 6/6/2013

2013-06-06

بســـــــم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالَمين، والصّلاة والسّلام على سيِّد المرسلين وخاتم النبيّين، وآله وصحبه أجمعين

جاء في أجْوَد الأحاديث في موضوع الإسراء عن أنَس رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلَّم لَمّا أتى بيتَ المقدس بالبُرَاق، ودخل المسجد، وصلَّى ركعتيْن ثمّ خرج، قال عليه الصّلاة والسّلام: "فجاءني جبريل عليه السّلام بإناءٍ من خَمر وإناء من لبَن، فاخترتُ اللبَن، فقال جبريل: اخترتَ الفطرة". هكذا، بدأت الرّحلةُ إلى السَّمواتِ السَّبع، كان رسولُ الله (صلعم) في زمنِ شدَّة (عام الحزن) حين أسْرَى سبحانه ﴿بعبدِه ليلا منَ المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصى﴾ (الإسراء 1)، ثمَّ أراه آياتِه بالمعراج العظيم في طريق الأنبياء الصَّاعدة إلى أعلى سماء. إنَّ اختيارَ الفِطرة هو تسليمٌ لمشيئة الله في مقاصده السَّاميَة ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم 30)، أي، كما دلّ تعالى، فهي ﴿الدِّين القيِّم﴾ وهوَ دِينُ الله المستقيم الَّذي به يهتدي المرءُ إلى الاستقامة دون شِرك. هوَ الإسلامُ حين كان الإسلامُ نقيًّا في قلوبِ المؤمنين، وكان واحدًا في ضمائرهم، فكانت يدُ الله معهم، تشدُّ أزرَهُم، وتسدِّدُ سعيَهُم، وتدلُّهُم على معنى الرِّسالة التي أنارت البصائرَ وأحْيَت القلُوب. الإسراءُ والمِعراجُ هو، في معنًى من معانيه أيضًا، إشارةٌ إلى وجهةِ الارتقاء الرُّوحي التي ينبغي على كلِّ مؤمنٍ أن يسلكَها بِبُراقِ عَزمِه وإرادتِه ونيَّته نحو القيَم الإنسانيَّة العليا التي هي غاية القصْد من الكتاب الكريم، وبالطّبع، هي الغايةُ المثلى وصولا إلى معرفةِ الله تعالى وفق الطّاقة، وعبادتِه كما يليقُ بالعبدِ الطّائع. ويكتمل معنى المناسبة الدينيَّة، عندما يُزهرُ القصدُ منها في القلوب، ويُثمرُ بالتّالي العملَ الطيِّب الّذي فيه الخَير للإنسان ولجماعةِ المؤمنين، بل وللإنسانيَّة جمعاء. وكيف لنا أن نمتثلَ في وجدانِنا هذا الحدث الفذّ من صدر الإسلام إلا بالشَّوق البالغ إلى الذّروة العليا، وبدايتُها التخلُّق بقيَم الإسلام، ولا أعهدها هذه القّيَم إلا الإيمان بالله الواحد الأحد، والعمل بالمعروف والانتهاء عن المنكَر، والقيام بالمفترضَات، وكلّ هذا يتطلَّب من النّفسِ التّحلّي بالأخلاق الحميدة، والتّرفُّع عن دنايا الأمور، وانخلاع القلب من كلّ ميلٍ أنانيّ إلى التّسلُّط والكبرياء والظّلم واستسهال الانغماس في ارتكاب المعاصي والشَّهوات. هذا هو سبيلُ الارتقاء إلى كلِّ معنى سماويّ، والتشبُّه بالمعراج الأسمى، والعودة إلى استجلاء ماهيَّة الفطرة التي جُبلت عليها النّفوس قبل انطماس مرآتها بالطغيان والابتعاد عن أمر الله. واليوم هذه مناسبةٌ جامعة أن نلتقي في هذه الدّار الكريمة لنكون صوتًا واحدًا داعيًا إلى التّقوى التي فيها النّجاة، ليس للفردِ وحسب، بل للجماعةِ، وللامة الاسلامية جمعاء، وتلاقيهم في فسحة الخير وتوحيد الله. وما ينفعُنا إن غنمنا الأرضَ وما عليها من دون رضى الله وشفاعة رسُولِه؟ ولَعَمري، ما من رضى وما من شفاعة دون العودة إلى فطرة الدِّين بعيدًا عن الغلوّ في سبُل الانقسامات والتشتُّت وتراكم الأحقاد. إنَّ من الواجب الملِحّ إخواني أن يكون صوتُنا واحدًا، مستَلهَمًا من الأصُول الجامعة، ومشبَعًا بامتثال كلّ المعاني التي تستحضرها هذه المناسبة، بل ويستحضرُها كتابُنا الذي يجمعنا بظلِّه، القرآن المجيد. صوتٌ داعٍ إلى الإنابةِ واستِدراك مكامن الخطر. ولا نخادعُ أنفسَنا غافلين عن وقائعَ من شأنها الإمعان في إثارة التنافر المذهبيّ، والعصبيَّة الفئويَّة، واتّساع الفجوة بين المسلمين أنفسِهم بالغضوّ عن إثارة عوامل الفرقة والانقسام. يُهدِّدُ بلدَنا اليوم الكثيرُ من أسباب الفتنة والأخطار الكبرى. إنَّنا نرفضَ بشدّة استدراج البلد إلى أتون لعبة الأمم عبر التسيُّب الأمني المفتعَل في هذه المنطقة أو تلك. طرابلس هي بيتنا بقدر ما هي الهرمل. وعرسال هي دارنا بقدر ما هي بعلبك. وهذه وتلك هي لبناننا الّذي نريدُه مصانًا بوعي أبنائه الّذي يوجبُهم، بحكم الذّمَّة والضَّمير وفطرة الدِّين إيَّاها، أن يتجنَّبوا الانزلاق إلى هاوية النار. علينا أن ندعو جميعاً إلى التعقل والتواصل والحوار، والى الحدّ من لغة التّحريض، والتزام المنهجيَّة الإعلاميَّة التي تستحضرُ في حركتها الرُّوح الوطنيَّة، والقيم الاخلاقية، التي تُدرك عِبَر التّاريخ ومعنى أهوال الحروب الداخليَّة كي يكونَ صوتُها أيضًا غير منحاز أو محرِّض. وندعو قبل كلّ شيء السياسيّين إلى الابتعاد عن الجدل العقيم الَّذي يبثّ رسالة الحقد عبر الشاشات، والانصراف بدلا من ذلك إلى تسهيل سبُل تشكيل حكومة وحدة وطنيَّة تتحمَّل أعباء المرحلة برؤيةٍ مسؤولة. وعلينا أن ندعو إلى المحافظة على المؤسَّسات الدستوريَّة بتعزيز عملها الجامع كي تجابه أخطار المرحلة المعقَّدة الرّاهنة. ونضمُّ صوتَنا إلى أصوات كبار أهل الحُكم بوجوب دعم جيشنا، وتعزيز قدراته، كي يبقى الدّرع الأمنيّ الواقي في الملمّات.  وكذلك دعم القوى الامنية كافة لحماية البلد من اي شكل من اشكال اللا استقرار. ونلفت إلى أنَّه من أهمّ أسُس الدعم هو وحدة أهل الحكم بدءًا من رئيس البلاد ، وصولا إلى رأس كلّ سلطة من السّلطات. فلبنان لا يُبنى إلاّ بالوحدة الوطنية. ولا بدّ من التّذكير في هذه المناسبة الأرض المباركة التي منها كان المعراج، أعني فلسطين. نذكِّر بقلب مجروح ونتساءل كم يهلِّل العدو المغتصِب لما يجري فوق الأرض العربيّة، في سوريا، في العراق. وكلُّنا يعلمُ الوجهة الحقيقيَّة التي يجب أن نناصبَها العداء بلا تحفُّظ. وأسأل الله تعالى أن يلهمنا إلى ما فيه رضاه، وأن يعصمَنا في نوايانا عن كلّ التباس وشِرك، وأن يسدِّد خطانا إلى السبُل القويمة، إنه هو السّميع العليم.

بيروت في: 27 رجب 1434 هـ.   الموافق 6/6/2013 م.