المجلس المذهبي | مجلة الضحي
السبت ٢٠ نيسان ٢٠٢٤ - 11 شوال 1445
كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في اللقاء الحواري " التعارف والاعتراف.. نحو دولة المواطنة" بدعوة من سفارة دولة الامارات العربية المتحدة

2018-12-18

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتَم النبيّين سيِّد المرسَلين وآلِه وصحبه الطاهرين الطيبين
آنَ الأوانُ للوقوفِ أمام المشهدِ الشَّامِل لِما يُمكن أن نسمِّيَه اليوم "الاستِجابةُ الحضاريَّةُ" للأمَّةِ في وجهِ التّحديات الكبرى التي تواجهُها، لا سيّما في مسألةِ تشويهِ المعاني والمقاصِد الحقيقيَّة للدِّين الحنيف، وإلصاق صورةِ مجتمعاتِه بالتطرُّفِ والغلوِّ وصولًا إلى الإرهاب.
يأتي موضوعُ لقائنا في غاية الانسجامِ مع المؤتمَراتِ واللقاءات التي تمّت خلال العقد الأخير من السنوات برعايةِ قادةٍ مستنيرين، ومؤسَّساتٍ كريمة ذواتِ خلفيَّةٍ أُمـمِـيَّةٍ كالأزهر الشَّريف ورابطة العالم الاسلامي ومنظَّمة التعاون الاسلامي ومركز الملك عبد الله العالمي للحوار وغيرها. وتمحْورت أعمالُها حول مواضيع في غاية الإهميَّة منها: تجديد الخطاب الدّيني، ومواجهة التطرُّف، وتصحيح المفاهيم، والحرّية والمواطنة وثقافة السلام العالمي إلخ... وأخيرا وليس آخرا: مؤتمر "الوحدة الإسلامية ومخاطر التصنيف والإقصاء" الذي انعقد منذ أيّام في مكّة المكرَّمة وتضمَّن بيانُه الختاميّ توثيقا لما ورد في الكلمة الملَكيَّة عن التضامُن من أجل خير الإنسانيَّة جمعاء، واستيعابِ سُنَّةِ الاختلاف ومدِّ جسُور الحوار والتفاهُم والتعاوُن، وتعزيزِ مفاهيم الدولة الوطنيَّة وقِيَمِها المشتركة، والبناءِ على المشترَكات الإنسانيَّة، والتقريبِ بين الرؤى، وترشيدِ ثقافة الخلاف، والعملِ طبقاً لوسطيَّةِ الإسلام واعتدالِه، دون ان ننسى اعمال المجلس البابوي للحوار بين الطوائف.
ما من شكٍّ في أنَّ مفهومَ "التعارُف" من شأنه أن يُحضِرَ في الخاطِر على الفور الآية القرآنيَّة الكريمة ﴿يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجَعلْناكُم شعوباً وقبائلَ لِتَعارفُوا إنَّ أكرَمَكُم عندَ الله أتقاكُم إنَّ اللهَ عليمٌ خبِير﴾ (الحجرات 13). وَيُلفِتُ خِتامُ الآيةِ الكريمةِ ﴿إنَّ اللهَ علِيمٌ خَبِير﴾ إلى أنَّ سابقَ عِلمِ الله تعالى، وحِكمتَهُ التَّامَّةَ في الخبرةِ بالنَّاسِ ومصالِحِها، كانا في صُلب المقاصِد البعيدة منها، وبالخُصُوص ما أراده عزَّ وجلَّ من الفِعل ﴿لِتَعَارَفُوا﴾.
والتعارف في المفهوم التوحيدي يعني لا تفاخر ولا تناكر، ويتطلّب حتماً الصدق والأخلاق وآداب السلوك وحُسن المعاملة، التعارف يعني التعايش السلمي واحترام الآخر. 
ونحنُ نُدركُ اليومَ، في عالَمِنا الـمُعاصِر، كم تبدو الصُّورةُ مخيفةً لو لم تكُن مبادئ التعارُف والتعرُّف والحوار والإقرار بالحقوق الإنسانيَّة والكرامةِ البشريَّةِ من الأمُور الـمُتَّفَقِ عليها بين الأمَم، يتمايزُ منها من يلتزمُ بها بمصداقيةٍ وشرف عن أولئك الَّذين يسخّرونها شعاراتٍ فارغة لغاياتٍ غيرِ شريفةٍ من التسلُّطِ والظُّلم وانتهاكِ الحقوق، أي بفراغ القلب والوجدانِ والضّمير من الحدِّ الأدنى للتقوى التي بها يكونُ الإنسانُ إنساناً بالمعنى الحقّ. 
كذلك، لا يُمكنُ ولا يصِحُّ أن تستقيمَ المقاربةُ الفعَّالةُ في هذه السّياقات كلِّها إلَّا بالتفهُّم السَّديد لمعنى "المواطَنة" في زمننا هذا، وفي كلِّ حال، فإنَّ هذا المعنى يلتقي في جوهره بما أرساهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في "عهدِ الـمدينة" في اعتبارِه أنَّ كلَّ الفئاتِ المؤمنة في المجتمعِ الإسلاميّ الناشئ "أمَّة واحدة" من دون نفي ذلك الاعتبار عن غيرهم ﴿وَلوْ شاءَ ربُّكَ لَجَعلَ النَّاسَ أُمـَّـةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُختَلِفِين﴾ (هود 118). 
والمواطنة تعني المحافظة على قِيمِنا ومُثُلِنا الاسلاميَّة المسيحيَّة الـمَبنيَّةِ على الإيمان بالله الرحمن الرَّحيم، بالله المحبَّة، بالنِّعمةِ التي أوجدَ بها الإنسانَ قادرًا على معرفةِ الآخَر ليكون له مرآةَ روح، وإمكان شراكة في الوجودِ الحيّ، على النّقيضِ تمامًا من كلِّ نوازع النّفسِ الأمَّارةِ التي تسترخصُ القتل منزلقةً بذلك إلى مهاوي العنف والبغضاء والصّراع والأذى والإرهابِ.
وفي هذا اللقاء الميمون، أتقدَّم بالشُّكر الجزيل من صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، ومن دولة الإمارات قياداتٍ وشعباً، ومن سعادة السفير لما عهدناه منهم من سياساتٍ حكيمة وداعمة لوطننا العزيز والتي عادت وتعود على اللبنانيّين جميعاً بالخير والبركة، بل على أمَّتِنا العربية جمعاء. وراجياً أن يتعافى وطنُنا لبنان وأن يكونَ له حكُومة قويَّة جامعة كي يتمكَّنَ مع كلِّ الَّذين يريدون لهُ الخيْر والفَلَاح، من الصُّمودِ والمضيّ قدُماً في تثبيت دولته الوطنيَّة العادلة.
سائلِين الله تعالى أن يسدِّدَ خطى المخلِصين، وأن يرفدَهُم بألطافه وعوْنه، إنَّهُ هوَ الحليمُ الحكيم.
 
بيروت في: 11 ربيع الثاني 1440هـ
الموافق: 18/12/2018م.