المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الأربعاء ٢٤ نيسان ٢٠٢٤ - 15 شوال 1445
كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن بمناسبة الاضحى المبارك للمغتربين 8/10/2013

2013-10-08

بســـم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسَلين، وآله وصحبه أجمعين  

أخواني وأبنائي الأعزّاء، نتوجّه إليكم جميعاً بأتم التحية والسلام، تجمعُنا أيّها الأحبّاء عواطفُ القربى التي هي في المعنى التّوحيديّ صلةٌ روحيَّةٌ إنسانيَّةٌ تشدُّ أواصرَها القيَمُ الرّفيعة، والمبادئُ السّامية، والفضائلُ المغروسَة في نفوس المعروفيّين عبر أجيال وأجيال. ومهما اشتدت عواصفُ المحن بمجتمعنا، وأثرت به العوائد الغربية، والشّتات في أربع جهات الأرض، فإنّ ما ترسَّخ في وجدان الموحِّدين من مآثر تراثهم العريق، ولطائفِ عرفانهم الدينيّ والثقافيّ العميق، يبقى السّراجَ المضيء في صدورهم مهما عصف الزّمان ونأتْ المسافات. الأضحى المبارَك، وليالي العشر النيّرات الزّاهرات، مناسبةٌ تشملنا جميعًا ببركتها ورحمتِها ونعمتِها، وإنَّه لَواجبٌ علينا بالغ القدْر أن نقفَ وِقفة تأمّل في معاني هذه الأيّام الخيِّرات التي تجمع قلوبَنا بنُورها من عمق الجبل إلى أنحاء العالم في كافة البلدات والقرى. فنسعى جميعاً الى تلاوة الصّلوات والأدعية على رجاء القبول من ربٍّ غفور رحيم. والمبادرة إلى أعمال الخير والعطاء والمشاركة الطيّـبة، وتبادل عبارات الودّ والمحبّة. هكذا، تحلّ برَكةُ الخَير في الرّوح، ويتنسَّمُ الموحِّدون أشواقَ اللقاء بالحقّ. ونتنبّه الى هذه الدّنيا التي تأخذُنا بكثرة مشاغلها وهمومها وطموحاتها وأوهامها، فهنيئًا لمن يتيقّظ من غفلاتها كي ينهلَ من ينابيع الخَير الدافقة بين أيدينا. وهنيئًا لمن حفظ في نفسِه محبّة الفضيلة والأُخوَّة والصّدق والحياء فتجنَّب كلَّ ما يؤذي روحَه المعنويّة، وابتعد عن كلّ منـزلقات الهوى المرديّة، فأنار ذاتَه، واهتدى بنور العقل الطائع، واستفاض في داخله بمشاعر المروءة والفضل والشرف التوحيديّ. أحبّائي وأبنائي، في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، يحتفل المُسلمون عامةً والموحِّدون خاصةً بعيد الأضحى تذكرةً باستعداد النبي إبراهيم(ع) للتضحية بابنه إطاعة لأمر الله وما جرى له كرامة متمثلة بقوله تَعَالَى:"وفديناهُ بذبح عظيم"، وهي قصة من قصص الأنبياء في فترة من فترات دعواتهم تُقدّر بحوالي ألفين وستمائة سنة قبل الميلاد، وهي حلقة من سلسلة الأنبياء الكرام، لهداية البشر، تضمنت امتحانًا للنبي إبراهيم(ع)، وهو الاختبار الظاهر لتصديقة الرؤيا وتعني تسليمًا وانقيادًا لأمر الله، وتتلخّص بثلاث نقاط: الإيمان بالله عزّ وجلّ، وقبول أوامره، والجزاء والمكافأة بقبول الطاعة. ايها الاعزاء، قد جَمعَ التَّوحيدُ ثِمارَ الدَّعوة إلى معرفةِ الباري تعالى وطاعتِه في كلِّ العصُور. فالتراثُ الدّينيّ يختزنُ معاني الإيمان منذ بدايات التّاريخ المعروف. وجميع الرسالات بالدَّعوة  هي للتَّصديق والإيمان بالله تعالى إيمانًا مستنيرًا بلطائف إشاراته، وحكمةِ دلالاته، ومعاني آياته، بما اكتنـزتها من معاني الدِّين وشروطه رحـمةً لبني الإنسان ونِعمةً وهدًى. وقد قال النبي سليمان(ع): "لو أن المعرفة نُصبت على شيءٍ، ما نظر اليها أحدٌ إلا مات من حسنها وجمالها. ولأظلم كل ضوءٍ في جنبِ ضوئها". وقال أحدهم: "المعرفة تأتي من وجهين: "من عين الجُود، وبذل المجهود". وقال الحلاج: "المسافة بين النفس والله تتوقف في مقدارها على صفة العشق الإلهي، وأن القلب الذي يعرف هذا الحب لا يموت أبدًا". إذًا يُستقى عِلمُ الدِّين من ينبوعِه الأصل، أي ممَّا شرَّعهُ اللهُ تعالى بواسطةِ رُسُله من أصولٍ وتعاليم. وتُعتبَر هذه الأصُول "حجَّة الله" على خلقه. وأصلُ الوصيَّةِ واحدٌ و "مُشترَكٌ فيما بينهُم"(بين الرسل) ويكونُ العقلُ المُستـنير بالإيمان والمعرفة حجَّةً على المرءِ كي يُميِّزَ في ذاتِه، بنُور الدَّعوة، بين أفعاله المحمودة وأفعاله المذمُومة، وبينَ الحلال المُحيي والحرام المُميت، وبينَ المعروف والمُنكَر من الأمر والنَّهْي، لأنَّ بهذا التَّمييز يستشعرُ المرءُ حقيقةَ الدِّين وغاياته، وبه يقطفُ الثِّمارَ التي بها تكونُ حياةُ القلوبِ والأرواح. لذلك، فإنَّه من أشرف الأمور وأعظمها أن يستقي المرءُ من ينابيع الرّحمة ما يُحيي قلبَه، وينير روحَه، ناهلا منها ما يُعلِّمُه قواعدَ الاعتقاد والسلوك، وفرائضَ الآداب والتَّحقُّق، ليترقَّى في مدارج المعرفَة إلى ما من شأنه أن يُدركَ به غاية الإنسانيَّة ومقاصد وجودها في العالَم، فلا شيء في هذه الحياة الدّنيا أكثر جوهريَّةً، وأكمل معنًى، من الوصولِ إلى هذا الغرَض الشَّريف الّذي به تتحقَّق كرامةُ الإنسان وشرفُه الأبقى لأنَّه ثمرةُ الطّاعة والهداية والإقرار. والمرءُ العاقلُ أيها الاحباء يديِنُ نفسَه اي يحاسبُها. فإذا حاسَبها برأيه وقياسه اضطرب وضاع، لأنّ النّفس أمّارةٌ بالسّوء من دون حُجّة الحقّ والعقل عليها، فوجَب أن يُحاسبَها بميزان الصّدق والعدل أمام مرآة الله، أي رسالتُه المعهود بها لأنبيائه العظام. والباري تعالى هو في كلِّ حال محبَّة ورَحْـمة، غفورٌ للتائبين، وصاحب الكلمة الفصل يـوم البعث والنشور، كما قال تعالى ﴿مَالك يـومِ الدِّين﴾. والموحِّدون- اضافة الى ما ذكرنا- اعلاه يُحرمُونَ إذا أهَلَّ هلالُ ذي الحِجَّة إحرامًا حقيقيًا على سبيل التَّوحيد، وكثيرون يُحيونَ الليلَ، ويستغفرونَ في الاسحار، ويجاهِدونَ قدر استطاعتهم على أن تكونَ أرواحُهُم قاصدةً وجهَ ربِّها الرَّحيم، وجوارحُهُم نقيَّةً من المعائب والآثام، ونواياهُم صافيةً لاستكمال معنى التضحية، وهو تسليمُ ما أُهبه الإنسان في باطنِهِ وظاهِرِهِ، وما امتلكه من متاع الدنيا، إلى المولى الكريم ليكونَ عيدًا زاخرًا بمعنى توحيد الله دون شِركٍ أو خلل. بذلك يكونُ "عُشر الأضحى" هو المناسبة التي يستذكرُ فيها الإنسانُ الموحِّد حقائقَ الرِّحلةِ في التوحيد التي يتوجَّبُ أن يكونَ في سياقها أصْلاً. فيستشعرُ حقائقَ الإحرام في كلِّ يومٍ منها. ويجدِّدُ العهدَ بالتيقُّظِ الأرقى إلى وجوب الثباتِ في نقاءِ النيِّةِ والتزام القصْد. ويستعيدُ في فكره معنى قدومه على دلالة الارتواءِ من لطائف العِلم، والوقوفِ عند فسحة المعرفة مترقِّبًا قيامة الحقّ، وصولاً الى العيد الَّذي يُدخِلُهُ في رضى الله سُبحَانَهُ وتَعَالَى. إِنَّ ارتباطَ المرءِ بالتزامات هذه الحجَّة العظيمة، وهذا الرِّباط الطّاهر، ارتباطًا معزَّزًا بالإخلاصِ والوفاءِ وحِفظِ الأمانة هوَ في عين ذاتِه نحرٌ لكل ضدِّيَّة، فمن دون هذا النَّحر لا يصِحُّ توحيد. أحبّائي وأبنائي، إنّني ببالغ المحبّة والتفهُّم، أدعوكم إلى رياض تراثكم الشّريف، وهو تراثٌ زاخرٌ بالمعرفة والحقائق، بل هو محلّ فيضٍ إنسانيّ شمولي إن نحن قاربناه بعقل فسيح، وقلبٍ محبّ، وإرادة خيِّرة. والموحِّدُ إن أخلص بات مثالا في العالم بأدبه وعقله وحضوره واتّزانه، فهو سائرٌ في هذه الرّحلة إلى بيتِ الله، متخلّصًا من شوائب المسالك الخاطئة، متبرّئًا من الأهواء الفاسدة، سالكًا دربَ التعلُّم والارتقاء في معراج الحقيقة والفضيلة الإنسانيَّة الحقَّة. وفي هذا المسار تكمن معاني عيد الأضحى. وفي قبول الحقّ والتسليم له يكون العيدُ بكلّ معناه، وتكون شمعتُه مضاءة في سرائر القلوب. أعاده الله سبحانه وتعالى عليكم وعلينا جميعًا برضاه وتوفيقه ورحمته. على أمل اللقاء الى اللقاء.                                                       
 شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز  
نعيم حسن
بيروت في: 4 ذي الحجة 1434هـ. لموافق في 8/10/2013م.