2013-07-08
وهي هُدًى، والهدى سبيلُ الرَّشاد، والإقامةُ على الطاعة بموجِب أمرِ الحقّ ونهْيِه، فالرِّسالةُ التَّوحيديَّةُ تهدي "إلى صراطٍ مستقيم"، ومُحالٌ أن تكونَ الاستقامةُ استسهالاً للظُّلم، وارتكابًا لكلِّ ما يمقتُه الله من مذمومات، بل هي العدلُ والتآلُفُ والتّعاضد لخير النّاس، وردّ المظالم، والإخلاص لله تعالى في ما أمر ونهى ودعا.
وهي رحمةٌ، والرّحمة صفةٌ من صفات الذّات تعالى الله وتنزَّه عن كلِّ صفة. رحمتُه هي إرادةُ إيصالِ الخير ودفع الشَّرّ، والموحِّدُ يتشبَّه بهذا الفضل القدسيّ، فلا يمكن أن يكونَ على العكس من ذلك. قال تعالى ﴿ورَحمتي وَسِعَت كلَّ شيء﴾ (سورة الأعراف 156)، فهنيئًا لمن خشع لهيبة رحمته، ومن حيث إنسانيَّته رحِمَ الآخَرين ليكون مثالا وحُجَّة للخير بين الخَلق.
إنَّ الدّخولَ في رمضان المبارك هو ولوجٌ من بابِ هذه المعاني إلى رحاب الحقيقةِ، وكم نحن بحاجةٍ إلى برَكةِ الحقيقة في هذا الزمن البائس حيث تتحوَّل ساحات الصّراع من الجبهة الأساسيَّة مع العدوّ الصهيوني إلى قلب مجتمعاتنا التي لا تنشد من حكّامها سوى العدل.
إنّنا نرى إلى الواقع فلا نجد مسوِّغًا عقليَّا يوضح لنا مُسبِّبات الانزلاق في هذه المهاوي المؤذية لشعوبنا ولقضايانا ولأمَّتنا سوى انطماس القلوب عن درك محاسن التّدبير. ومن جهتنا، لا يسعنا إلا النّظر وفق ما تقتضيه حقيقةُ الدِّين من الارتقاء بالإنسانِ وبالمجتمع إلى مقام الانسجام مع القيَم
والمثُل العليا التي جعلت منه دعوةً موجَّهةً إلى بني البشر. لذلك، فإنّنا نأمل أن يكون الصيام مثمرًا، يعني أن يعودَ بنا من حاجات الجسد إلى أشواق الرّوح، وذلك لا يكون ممكنًا إلّا إذا اصطلح القلبُ بالعبادة والمحبَّة، والنِّيَّة بالصفاء وتسديد الوجهة نحو التّوبة أي الرجوع إلى عهد الله أي الطاعة وإرادة الخير.
هذا هو الكتابُ، وهذا هو معنى الصَّوم، وهذا هو بابُ الظَّفر بما أراده الله سبحانه وتعالى لنا من بركات هذه الذِّكرى بهذا الشَّهر المبارَك. ونحنُ نتمسّكُ، لا بألسنتنا، ولا بشعاراتنا، بل بقلبنا ووجداننا وعقلنا بهذه الرَّحمةِ، وهذه النِّعمةِ، وهذا الهدى.
ويبقى لنا الأملُ أيُّها الأعزّاء المؤمنون في وطننا وأمّتنا أن يمنَّ علينا اللهُ تعالى بنورٍ في البصائر كي نجد سبُلَ الخلاص من هذه المحن، كي نستعيد أنفسَنا من هذا الانحدار، كي تتيقَّظ ضمائرُنا وصولا إلى تلمُّس الدّرب إلى وحدتنا وتآزرِنا واجتماعنا على ما فيه عزَّة أمّتنا وظفرها.
إنّنا، في مستهلّ هذا الشّهر المبارك، ندعو الأخوةَ في لبنان جميعًا، إلى التنبُّه للمخاطر الكبرى التي تهدِّدُ ليس فقط استقرارَ البلد، بل سببَ وجوده، إذ أن الرّكونَ إلى التنافرِ وتكريسِ الانقسام بات بابًا إلى الفوضى حيث يضيعُ الميثاقُ الوطنيّ، ويلوذُ كلُّ فردٍ بمذهبِه، وكلُّ عشيرةٍ بحِماها، وواهمٌ من يتوقَّع النّصرَ فوق الأنقاض.
إنَّ المسؤوليَّةَ الوطنيَّة، بل والإنسانيَّة تحتِّم علينا أن لا نعدمَ سبلَ الحوار، والبحثَ عن كلِّ ما من شأنه أن يجنِّب البلدَ مخاطر الوقوع في المهالك. ليس المطلوبُ فقط أن نطالبَ بالدَّولةِ القادرة، بل المطلوب الـمُلِحّ أن نجدَ الوسيلةَ التي بإمكانها الإسهام في تحقيق تلك الأمنية. وليس المطلوب أن نطنبَ في امتداح الجيش في حين أنَّ التّشرذمَ السياسيّ يُسهمُ مباشرةً في تشتيت انتشاره، وبعثرة قواه، وإنهاكه بصورةٍ مستمرَّةٍ بإطفاء الحرائق هنا وهناك وهنالك، بل المطلوب الاتّفاق على أدنى مقوِّمات التفاهُم الّذي من شأنه أن يديرَ عمل المؤسّسات الدّستوريّة وغيرها إسهامًا في توفير المناخ الملائم كي تُبنى الدّولة، ويُبنى الجيش وفقا لما فيه المصلحة الوطنيّة العليا.
ولا يسعنا في هذه المناسبة الكريمة إلا أن نبتهلَ بالتضرُّع إلى الله سبحانه وتعالى أن يعاملنا برحمته وشفقته وعفوه، وأن يلهمَنا إلى ما فيه الخير، وأن يقدِّرَنا على استلهام معاني رسالته في شهر فضيل تفيضُ فيه البرَكة، وأن يرفع الغُمَّة عن شعبِنا في فلسطين التي يجبُ أن تبقى السّاحة الوحيدة لنضالنا من أجل تحريرها من العدوّ الغاصب، وان يهدي قادة مصر الى خير شعبها وامتنا، وأن يزيلَ الشِّدَّة عن إخوتنا في سوريا والعراق ، ويمنّ عليهم بزوال المحنة وخير العاقبة، إنَّه هو السميع المجيب.