المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الجمعة ٢٩ آذار ٢٠٢٤ - 19 رمضان 1445
رسالة رمضان 2011

2011-07-30

الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسلام على سيّد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين، إلى يوم الدِّين يهلُّ شهرُ رمضان المبارك وفي إطلالةِ هلالِه النّور الوافر إذ تنزّلتِ الآياتُ البيِّناتُ فرقانًا بين الحقّ والباطل. إنَّ هذا النور لَيعني ما هو أكثر من الضوءِ السّاطعِ في الليلةِ المشهودة، إنَّه الرّحمةُ الإلهيَّة إذ يــبثّها الملاكُ في قلب رسولِه لتكونَ رسالةً للنّاس تحملهُم في معانيها من عتمةِ الجهل إلى فسحةِ الإيمان النورانيَّة، وترتقي بهم إلى رياض التّوحيد. نحن إذًا في أوائل الرِّحلة المستعادَة في كلّ عام لنجدِّد التوّبة، ونحثّ الهمّةَ للمضيّ قدُمًا في سبيل الخير والمعرفة والتحقّق. إنّها حكمةُ الله العليّ العظيم، فريضةُ الصوم بابٌ إلى الجوع، الذي هو بنعمةِ الإيمان وطيّبات المعرفة، بابٌ إلى استشعار الرحمن، والإنابة إلى وجهِ الحق، حيث تسكن الجوارحُ إلى اعتقاد القلب دون الجموح نحو الهوى، وتلوذُ النَّفسُ برحمةِ ربِّها في سكينة الذِّكر، ويستقرُّ الخاطرُ في بَركةِ الجماعة الساعيةِ في الخير، ذلكَ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أرادَ الطّاعةَ للعبدِ كرامةً له، وسبيلاً إلى تحقيقِ فضيلة ذاته، ومسلكًا في الحياةِ موصِلاً إلى غايةِ الوجُود، وتلك لأصحابِ البصائر أجلّ النِّعَم. قال تعالى في كتابه الكريم ﴿يا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُتِب عَليكُمُ الصِّيامُ كمَا كُتِبَ علَى الَّذينَ مِن قبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُون﴾ (البقرة 183)، فالصِّيامُ سُنَّةٌ لأهلِ الطّاعات من عهدِ آدَم، ثمرتُها التَّقوى التي هي البابُ الأعدل لتهذيب الأخلاق، ومَن هذَّب أخلاقَهُ وُفِّقَ في استشعار خلاَّقه، لهذا كان في التّقوى "جَماع الخَير كلِّه" كما أجمع عليه السَّلفُ الصّالح. فإن كانَ الإمساكُ عن المفطِرات المعهودةِ هوَ البديهيُّ في الصَّوم ، فإنّ الواجبَ يقضي أيضًا بالإمساكِ عن الـمَــنهِيّات في أعمال الجوارح واختلاجات القلب، ليُدركَ الموحِّدُ سبيلَ المراقي في الطّاعة وصُولاً إلى الإمساكِ عمّا سوى الله تعالى، وهذه غاية جليلة يعمّ بها الخَير، ويتوهَّجُ نورُ الفضيلةِ الإنسانيَّة في سموّ جمال الحقّ. هذه روحُ رمضان الكريم إذا ما أنَبنا إلى معناه، أي إذا ما أقبلنا على الأمر، ولُذنا بأهداب التَّوبة. إنَّ في هذا الدّرب - والشهادةُ للحقّ – بابًا لإصلاح النّفس، وحفاظًا على منعتِها ووحدتِها وهيبتِها في زمنٍ بات القابضُ على فضيلةِ روحِه كالقابضِ على الجمر. والإسلامُ الحنيفُ يعلِّمُنا أنَّ صلاحَ النَّفس هو النواةُ الحيَّة لصلاحِ المجتمَع، إذ أنَّ المرءَ ليس بقادرٍ على رعايةِ عائلتِه فيما هو عاجزٌ عن رعاية نفسِه، والحاكمُ ليس بقادرٍ على العدل ما لم يكن عادلاً مع ذاتِه في المقامِ الأوّل. وهذا الشّهرُ الفضيل مدرسةُ جماعةٍ إذ يجمعُ في ظلالِ بركتِه، ودوحةِ معانيه، النّاسَ إلى بعضهم بالبرّ والإحسان والمحبَّةِ والمشاركة. إنّ خُبزَ الإفطار ومِلحَهُ هو في عينِه اجتماعٌ على كلمةِ الله، وتوحُّدٌ في الإيمان حول مائدةِ الخَير ولطائفِ الرّسالة الإلهيَّة. وكم نحنُ في لبنان اليوم في حالة افتقارٍ إلى خبزِ المشاركةِ، ومِلحِ التّعاضُد، وبرَكةِ الاجتماع حول المائدةِ الواحدةِ التي نتناولُ منهَا جميعًا زادَ الخلاص. يحتاجُ وطنُنا اليوم، أكثر من أيّ فترةٍ تاريخــيَّةٍ مضَت، إلى الرّوح الميثاقـيَّة التي كانت حجرَ الأساسِ في استقلالِه، بل كانت الفكرةَ الجامعَة التي آلفَت بين بنيه قاطبة من أجل المضيّ نحو بناءِ الدّولة الناهضَة فوق أنقاضِ صراع الأُمَم آنذاك. لقد آنَ لهذا الفينيق أن يتعلَّمَ أنَّ فُسحةَ الأمَل، وآفاقَ الغدِ المشرق، هي أجدى لهُ منِ اجترارِ العودةِ تكرارًا إلى الرَّماد. إنَّ سبيلَهُ إلى الحياةِ هو في قلبِ حلقةِ المشاركة، وليس في دائرة الانغلاقِ على الرأيِ الواحدِ. آنَ لنا أن نفهمَ المعادلةَ الصعبةَ، ولكن الـمُمكِنة، التي أعطت بلدَنا ميزتــه الفريدة، وهي أن الحوارَ لنا قدرٌ. نعم، قدرُنا الحوار، وما يقتضيهِ على الدّوام من مقاربةٍ متضمِّنةٍ الفهمَ العميق للآخَر، الَّذي هو بالمناسبَة، شريكٌ أصيلٌ في الكيان. اننا نؤيد الرِّجال الكبار الَّذين يقفون اليوم موقف الخِيار الجامِع، يحاولون بأقصى الجهد المحافظةَ على ما يُهيِّئ العودةَ إلى اللُّحمَةِ التي بها يكونُ لبنان أو لا يكون، بل لنبقى كالبنيانَ المرصُوص في مقاومة العدوّ المتربِّص للإنقضاضِ، ليس فقط على الحجَر والبشَر فوق أرضِنا، بل على ثرواتنا ومستقبل أبنائـنا وأحفادنا في ظل استمرار انتهاكاته لسيادة وطننا براً وبحراً وجواً. ونشدّد على معاني التسامح والتآخي والمصالحة والتواصل بين جميع اللبنانيين ونتطلع الى نهضة الحكومة اللبنانية بالعمل العام الى ما فيه خير لبنان ورفعته ومنعته وصون وحدته الوطنية ومعالجة مشاكل المواطنين المعيشية والاقتصادية والاجتماعية. ونتابع ما نشهده من حولنا من تحديات تبعث على القلق، لا سيّما في سوريا الشقيقة التي نتمنّى لها الأمن والاستقرار والرخاء والقوة ونبذ العنف والفتنة وتحقيق الإصلاح ومنع التدخل الخارجي في شؤونها. ونستذكر إخواننا الفلسطينيين، فنشدُّ من أزرهم للمُضي في طريق المصالحة، ومواصلة النضال بما تقتضيه المصلحة الفلسطينية حتى قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس. وإننا في طائفة الموحدين الدروز نرفع الدعاء في الشهر الفضيل لكي تبقى راية الحق والعدل والخير مرفوعة دائماً، ونؤكد الرفض القاطع لكل أشكال الاقتتال والفتنة بين المسلمين، أو بين المسلمين والمسيحيين، ونوجّه الدعوة خالصةً إلى الجميع أن ينهلوا من معاني شهر الصيام وأن يبادروا إلى ترسيخ وحدتهم وتوسيع دائرة الالتقاء في ما بينهم، وإن الله سميعٌ مُجيب.
بيروت في: 29 شعبان 1432 هـ. الموافق 30/7/2011 م.