المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الأربعاء ٢٤ نيسان ٢٠٢٤ - 15 شوال 1445
كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز بالذكرى الثلاثين لتغييب الإمام موسى الصدر 30-8-2008.

2008-08-30

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أُنيب      قبل ما يناهز ثلاثمائة عام من الزمن، وتحت وطأة الظلم الجائر، غادر أسلاف الإمام المغيَّب جبل عامل إلى رحاب النجف الأشرف، وامتداداً إلى مرقد الإمام الرضا (ع)، عاش أجدادُ الإمام، فنهلوا من المعرفة الإماميّة، وتجذّروا في الإيمان، وبرزَ منهم المرجعيّةُ في الدِّين، والقيادةُ في المجتمع، والألمعيّةُ في نهج النهوضِ الفكريّ، لا سيّما منهم والد الإمام السيِّد صدر الدين الذي قادَ في شبابه حركة "دينيّة تقدّميّة" (كما جاء في سيرته)، وساهمَ في نهضةِ العراق الأدبيّة، ممّا يشيرُ إلى نزوعٍ إنسانيّ نحو التحرّر من الجمود والغفلة.      إنّ كلَّ مداركِ هذا التاريخ العميقة، بماهيّاتها الروحيّة وعِبَرها الواقعية وقِيَمِها التحرّرية تجسّدت، بل تبلّورت في شخصِه المغيَّب، فهو عرف معنى سكون الحَوْزة في قُم، وأدركَ مفهومَ العدل بعقل القانون في جامعة الحقوق في طهران، وهو الذي ما إن سمعه العامليّون حتّى أبَوا إلاّ أن يقيمَ بينهُم، في أرض أجداده، ليُقيمَ روضةَ الذِّكر، ثمّ ليبني صروحَ النهضة، ثمّ ليصرخَ ثائرًا ضدّ بلادة الحكّام وطغيان المعتدي.      السيِّدُ موسى الصّدر أبحر في كتُبَ الإيمان فصار إمامًا، وشارك الناس معاناتِهم في جبل عامل والجرود العالية فما استطاع مذّاك صبرًا على ضيمٍ كأنّه من عمرِ التاريخ. لكنّه، باتساع فكره، بدا معبِّرًا عن رفضه الظلم من موقعٍ إنسانيّ رحب، وليس من حيِّز طائفيّ ضيِّق، فالتقى آنذاك مع العديد من رجالات الفكر الكبار في البلد، ودُعي إلى المحاضرة في العديد من المنتديات الوطنيّة، لذلك، لم تحشره مرارةُ الواقع في زاويةِ العشيرة، ولم يحدّ من آفاق رؤيته نصرةُ القريب، بل بقي راسخًا في أساس الوحدة الوطنيّة، وثابتًا في معناها اللبنانيّ، ومكافحًا في المستوى الأعلى لبقاء البلد وتوازناته وانسجام مكوّناته على القاعدة الدستورية، الأمر الذي تحفظه وثائق المرحلة وتؤكدّه، خصوصًا، كلّما صار لبنان في عين العاصفة.      كان الإمامُ المغيّبُ القوّةَ الضاغطة التي أدّت إلى صدور قانون تنظيم شؤون الطائفة الإسلامية الشيعيّة كما هو معروف (عام 1967)، وانتُخب رئيسًا للمجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى (عام 1969). لقد تضمّن خطابُه في تلك المناسبة ذكرَ الأهداف التي هي تعبِّرُ في كلِّ حال عن تطلّعات الرجل الكبير وماهيّة نضاله. تحدّث عن الدور الاسلاميّ الذي يجب أن يتكامل بالفكر والعمل والجهاد، وأردف هذا بالتنبيه إلى عدم التفرقة بين المسلمين والسعي للتوحيد الكامل بينهم. إنّ الأولى بنا اليوم أن نؤكِّدَ، كما أكّدنا دائمًا، على أهميّة هذا الهدف ونبالتِه وقيمتِه الجوهريّة لوحدتنا الإسلامية التي هي الدرعُ الواقي لنا جميعًا من أخطار الفتنة ومهاوي التنازع الرخيص.      ثمّ تحدّث وأفاض عن وجوب التعاون مع الطوائف وحِفظ وحدة لبنان، وهذا هو شعارُنا جميعًا، وما تلهف إليه قلوبُنا، وما تتطلّع نحوه أبصارُنا وبصائرُنا لأنّ هذا الهدف هو مدماكُ الأساس للبناننا، مدماكٌ يضع لبنـته المؤمنون المتطلِّعون إلى أن يكونوا كالبنيان المرصُوص كما أوصاهُم رسول الله (ص)، وليس قبائل شتّى تتنازعُهم الأمم.      ومن أهمّ الأهداف التي وضعَها آنذاك، وأحسبُ أنه لو هو بيننا اليوم –والله قديرٌ كريم- لما غيّر منها حرفًا، هذه المعادلةَ البالغة وهي: ممارسة المسؤوليّات الوطنيّة والقوميّة، والحفاظ على استقلال لبنان وحرّيته وسلامة أراضيه. هذا يعني أنّ المناداةَ بالاستقلال والحرِّية والسيادة لا يجبُ أن تزيحَنا عن موقف الالتزام بالمسؤوليّات التاريخيّة، الوطنيّة والقوميّة، وفي القلب منها فلسطين. كما لا يجبُ، بالمقابل، أن تقحمَنا التجاذبات الإقليمية والدوليّة في دائرة التصدّع والتنافر وغلبة المصالح الذاتية على منطق بنيان الدولة، فنعجزُ هنا، ونتربّص لبعضنا في العتمة هناك، وفي هذا خسران مخيف.      إنّ محاربةَ الجهل والفقر والظلم والفساد الخلقي لم تكن أهدافا حدّدها في خطبه وحسب، بل كانت تلك المحاربةُ دأبَه طيلة حياته. إنّ كلَّ تلك الأهداف لم تبقَ محصورةً عنده بالصحائف، بل اختلج بها قلبُه، وانكبّ لها عقلُه، وانبرى لتحقيقها بكلِّ ما أوتيه قولاً وحالاً وعملاً وجهادًا وحركةً كأنّه العاصفة التي هبّت لتضربَ قلاعَ الرجعيّةِ والخذلان.      ومنذ البدء استشعر الخطورةَ القصوى للعدوان الإسرائيليّ على لبنان من بوّابة جنوبه، فأطلق الصرخةَ تلو الصرخة تحذيرًا وتنبيهًا، ونادى بتحصين القرى يعني بزرع المقاومةِ في عمق التربة، ودفع فكرةَ دعم الصّمود دفعًا ممّا أدّى إلى إقرار قانون إنشاء مجلس الجنوب، وهذا يعني توفير مقوّمات الصمود. نعم، كانت السّلطةُ آنذاك مستندةً إلى الضعف لدرءِ المحنة، فتراخت وأهملت، ولم يصدِّق الإمامُ مقولةَ الضعف، فكان كلامُه في بعلبك إيمانًا بقوّةِ الناس المتشبّثةِ بأرضها وعقيدتها ووطنيّتها تشبّثَ الجذور بأعماق التربة.      هذا الإمام المتوقِّد نشاطًا وحيويّة أيقن عند اندلاع الحرب الداخليّة بجسامة الخطر المحدق بلبنان. ما ناكف الآخرين بالكلام، وما أطلق التهم، بل اعتصمَ وصام قائلاً: "إننا نريدُ أن نخنقَ صفحةَ العنف بصفحة العبادةِ والاعتصامِ والصّيام." ودعا، أيّها الأخوة، صادقًا، إلى الحوار الوطني. بل إلى قمّةٍ روحيّة داعيًا إلى التعايش ووقف القتال وإنصاف المحرومين، ونادى بالسيادة الوطنيّة ورفْضِ التقسيم والأمانةِ لفلسطين.      السيد موسى الصدر كان بأهدافه المعلنَة ومواقفِه الواضحة وصرختِه الشمّاء ضدّ الحرب وضدّ الفتنة وضدّ ضعف الدولة وضدّ الانصياع لأرَب العدوان. لكنّ الرجالَ الكبار لا يُغيَّـبون ولا تُمحى آثارُهُم بجريمة خطف، إنّهم في ضمير الناس وفي عين الوطن. إنّ كلّ وثيقة وطنيّة أثمرت وفاقًا وعودةً للبنان ودولته فيها مع جميع الوطنيين المخلصين من صوته وفكره ما جعلها مثمرة. وكلّ جهادٍ ومقاومةٍ بُذِلا لتحرير الأرض فيهما من صرخته وروحه ما حقّق النصر. وكلّ إرادةٍ جامعةٍ تعملُ على رصّ الصفوفِ ووأد الفتنة وبناء دولة العدل والإنصاف فيها من حبّةِ قلبه وصفاءِ رؤيته ما يجعلُها نافذة بل ضامنة لما نادى به وعمل لأجله في الملمّات.      إنه حقّ الإمامِ علينا أن نبقى أوفياء لثوابته الإسلاميّة وأهدافه الوطنيّة ورؤيته الإنسانيّة وهو القائل: "لا تطلبوا منّي مواقف سياسيّة بل إنسانيّة". والسلام عليكم ورحمة المولى وبركاته.  بيروت في 30/8/2008.