المجلس المذهبي | مجلة الضحي
الخميس ١٨ نيسان ٢٠٢٤ - 9 شوال 1445
كلمة الشيخ سامي أبي المنى، ممثلاً سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسـن في افتتاح لقاء: "الهجرة ظاهرة عالمية: القضايا والهم�

2008-04-14

صاحب الغبطة، أصحاب السماحة والسيادة، جانب مجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمي، أيها الأخوة الكرام... الهجرة ظاهرة عالمية، لها قضاياها وهمومُها التي تستدعي الدراسة والبحث، بما تُثيره من التَّحدي وتستوجبه من المواجهة العلمية والوطنية والدينية، حيث تختلطُ وتتشابكُ المفاهيم والأفكار بين الانفتاح والتطور والعولمة من جهة والترابط العائلي والاجتماعي والوطني من جهة ثانية، بين سلّة القيم المتوارثة وسوق القيم المستجدة، بين جيلٍ قديم وجيل جديد، بين إيمانٍ والتزامٍ ورعاية دينية من ناحية وحياة مادّيةٍ وحريةٍ وتقصيرٍ وتشتتٍ في الرعاية من ناحية ثانية. من هنا تأتي أهمية انعقاد هذا المؤتمر في مقر البطريركية المكرّمة، للتأكيد على دور المؤسسة الوطنية والمؤسسة الدينية، خصوصاً، في معالجة هذه الاشكاليات الدقيقة والمتشعبة، ولعلّ أهم نداء يمكن أن نطلقه في هذا المجال هو التنبيه الى معنى الغربة الحقيقية، حيث يقول الأمير السيد عبد الله التنوخي أحد كبار علماء التوحيد: «وفي الحقيقة ما ثمَّ غربةٌ إلاّ بالحجبة عن مشاهدة الحقّ، لأن المحقين غربتهم هي حُجبتُهم عن مشاهدة الأنوار» وفي ذلك تأكيدٌ بأن غربة الروح أشـدّ وأوحش وأخطر من غربة الجسد في معناها العميق، وهو ما يعلّمنا إيّاه التوحيـد، أن لا نتغرّب عن النفس العاقلة الجوهرية التي بها نعرف الحق ونعرف الكمال الإنساني، كلٌّ وفق طاقته، فلا تأخذنا الغربة أو الهجرة الى تغرُّب ذاتي عن الحقيقة فنخسرَ حينذاك الحاضر والمستقبل وذلك هو الخسران المبين. غير أنّ هذا الدرس للمؤمنين في معنى الثبات والتوق الى الحقيقة، لا ينفي أسباب وموجبات الهجرة الضرورية التي أشار القرآن الكريم الى حسناتها، حيث قال تعالى: «والذين هاجروا في الله من بعدِ ما ظُلِموا لَنُبَوِّئنََّهم في الدنيا حسنة» (النحل41)، وقد أمر تعالى بالسير في الأرض: «قل سيروا في الأرض» (النمل69)، مؤكداً بذلك على أهمية الهجرة والانتقال من مكانٍ الى آخر نشراً للدين وطلباً للأجر وسعياً للرزق الحسن أو هرباً من الظلم، إذ في ذلك تكفيرٌ عن السيئات ورحمةٌ من الله تعالى:«إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يَرجُون رحمةَ الله» (البقرة218)، وخصوصاً أولئك الذين يُضطرّون للحفاظ على إيمانهم فيفضّلون التخلّي عن متع الحياة والهجرةَ والاكتفاء بأبسط وسائل العيش كما فعل أصحاب الكهف، وهو ما فضّله يوسف الصدّيق (ع) أي الهجرةُ الى السجن وتركُ المغريات والملذّات: «قال ربِّ السِّجنُ أحبُّ إليَّ ممّا يدعونني إليه» (يوسف33). وما تركيز الكتاب العزيز على مفاهيم الهجرة الهامة إلاّ لكونها منشأً لكثير من الخيرات ولتفاعل الحضارات، وفي هذا الإطار تأتي هجرة الرسول الأكرم من مكةَ المكرّمة الى المدينة المنوَّرة حفظاً للنفس وهداية للنّاس ونشراً للإسلام، وكذلك أمرُهُ المسلمين بالهجرة الى الحبشة تفادياً للظلم والقتل، حيث تمكنوا هناك من عبادة الله واهتدى الملك على أيديهم وخلقٌ كثير. لكنَّ الهجرة لها مبرراتُها التي تختلفُ باختلاف الزمان والظروف والغايات، وهي لا تعني في مطلق الأحوال دعوة الناس الى ترك ديارهم والاستغناء عن أرضهم كلّ ما لاح طارئ أو حصلت صعوبةٌ أو واجه البشر عدواناً وتحدّياً، فتتحول إذّاك هروباً من الواقع وتخاذلاً وخسارةً للأرض لا تعوّض أو تغدو مغامرةً لا تُحمدُ عقباها، وتُُصبحُ معاناةً وطنية أو مشكلة اجتماعية كما هو حاصلٌ اليوم في الكثير من بلدان العالم، وخصوصاً البلدانِ النامية، حيث هجرةُ الكفاءات التي تُضعف هذه البلدان وتكلّفها المبالغ الطائلة، في خسارة أبنائها مرتين، مرّة عندما تُعدّهم وتصرف على تعليمهم وتنشئتهم ومرة ثانية عندما تفتقد علومهم وطاقاتهم في مسيرة تطورها. ومّما لا شك فيه أن هناك عدةَ عوامل تؤدي الى الهجرة، منها السياسية ومنها الاقتصادية ومنها الاجتماعية، وتتحمّل الدولةُ المسؤولية الكبرى، كما الهيئاتُ الوطنية والدينية المختلفة، ولعلّ أهمَّ ما يَحدّ من الهجرة قيامُ مشروع الدولة الحديثة الديمقراطية البعيدة عن الفساد السياسي والمحسوبيات، والقائمة على سياسة اقتصادية ملائمة تعتمد على الخبرات، وزيادة الوعي الاجتماعي والاهتمام بالمعطيات الوطنية من جامعات ومؤسسات وقدرات ذاتية، وذلك للحدٌّ من نزيف وهجرة العقول والأموال. وإذا كان من المؤكد أن للهجرة آثاراً إيجابية على الوطن، علمية ومعنوية ومادية، لكن الآثار السلبية بدأت تتغلّب عليها فتعثرت التنمية وقلّت الكفاءات وتقلّص الانتاج المعرفي والبحث العلمي وغاب الهمّ الوطني عن بال معظم المهاجرين وتضاعفت الخسارة المادية والاجتماعية، كلُّ ذلك مع تنامي الطلب الخارجي، وخصوصاً الغربي، على أصحاب الاختصاصات العالية وعلى الأيدي العاملة، ومع تسارع حركة العولمة بما تحمله من هيمنة الدول الكبرى اقتصادياً وإعلامياً وثقافياً، وقد ارتبط ازدياد الهجرة بالمشاكل السياسية والأمنية والمستجدات غير المشجِّعة للشباب والعائلات، حيث أننا نعيش في منطقة تعاني، باستمرار، من التدخلات الخارجية وصراع الأيديولوجيات والقلق الدائم على المصير، وتلك هي حال لبنان وعددٍ من الدول العربية الأخرى التي تتطلب وقفة موحّدة لمعالجة هذا الوضع بسياسةٍ حكيمة وإدارة رشيدة. أما وقد حصلت الهجرة وتحصل كل يوم، فعلينا أن نواجهها وأن نعالج آثارها، وتلك هي مسؤولية الدولة والمرجعيات الدينية والمؤسسات والأفراد، لإيجاد إدارة منظّمة لشؤون المهاجرين، كي لا يكون هناك اغتراب حقيقي وضياعٌ وتشتت فكري ووطني وديني . كيف يمكن أن نَحول دونَ الهجرة العشوائية العارمة ونحاول تنظيمها وإدارتها؟ وكيف يمكن أن نحوِّلها الى عملية تلاقح فكري واقتصادي بين الوطن والعالم المتقدِّم؟ وكيف يمكننا أن نمنع الغربة من أن تصبح اغتراباً عن الدين والهويّة، بما فيها اللغةُ الأمّ، وضياعاً للإنسان الفرد وللعائلة في متاهات المدنية والعولمة وتقاطع المصالح؟ في الإجابة على هذه التساؤلاتِ تكمن المسؤولية المشتركة، بكل ما تتطلبه من جدِّيةٍ وانفتاحٍ وتشخيصٍ دقيق للمشكلة ورسم خطة مدروسة متطورة لمعالجتها، ولعلَّ من واجبنا أن نقتدي بالمرجعيات والدول التي تعمل على رعاية أبنائها وعائلاتها مهما طالت المسافات وتبدّلت الظروف، ولعلّه من الأجدى كذلك أن نستفيد من إيجابيات العولمة في خضم هذه الظاهرة العالمية، وأن نقرّب المسافات بين المَهاجر والمَواطن، وأن نواجه الهموم والتحديات بجهود مشتركة على مستوى الدول العربية وعلى مستوى الوطن وعلى مستوى المرجعيات الدينية، خصوصاً وأن منطقتنا محطةٌ لتلاقي المصالح الاقتصادية وللحوار ولعمليات السلام المنشودِ دائماً، كما أن لبنان هو النموذجُ الأبهى للتفاعل والتواصل، وكم نشعر، ونحن نقلّبُ مصطلحات الهجرة والتهجير، ومصطلحات الطلاقِ والتلاقي، والاختلاف والخلاف، والتقارب والتباعد، وغيرها من كلمات قاموسنا الوطني والسياسي، كم نشعرُ بواجب الحفاظ على صيغة لبنانَ التنوعِ والعيش الواحد والاحترام المتبادَل بين العائلات الروحية ومكوّنات هذا الوطن الجميل بطبيعته وبغناه الروحي والفكري والانساني، فنواجهُ الهجرة الداخلية ونقرّبُ المسافات ونشجّع الشراكة الحقيقية بين أبنائه، فلا نتعصّبُ ولا ننزوي ولا نحمل مشاريعَ فئوية، بل يكون لبنانُنا هو المشروع، هو القضية وهو الهمُّ وهو التحدي الكبير، إنها مهمة صعبة ولكنّها تشكّل حافزاً لذوي النوايا الحسنة والارادات الطيِّبة في الوطن، كما شكّلت قضايا الهجرة حافزاً للقيّمين على هذا اللقاء ومستضيفيه من مجلس كنائس الشرق الأوسط إلى مجلس الكنائس العالمي الى بطريركية الأرمن الأرثوذكس، فعسى أن يوفّق المنظمون والمحاضرون والمشاركون، بعونه تعالى، الى بيان عام مثمر يلقي الضوء على الهموم والتحديات ويشير الى المعالجة المطلوبة. وفقكم الله لما فيه خيرُ أوطاننا وأبنائنا المقيمين منهم والمغتربين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.